خيرالله خيرالله

كاتب لبناني مقيم في لندن

ما تحصده الإدارة الأميركية في العراق هذه الأيام، ويحصده معها للأسف الشديد العراقيون، يمكن اعتباره نتيجة مباشرة لما زرعته في البلد. كلّ ما في الأمر أن السحر انقلب مرة أخرى على الساحر على غرار ما حصل في الماضي القريب في أفغانستان، مع فارق أنه لم يوجد بين الدول المجاورة لأفغانستان -ربما بسبب فقرها، ووعورة أراضيها، وصعوبة التعاطي مع القوى المهيمنة على البلد- من يستغلّ عملية إسقاط نظام quot;طالبانquot; المتخلف. في المقابل، وجد من يستفيد من الاحتلال الأميركي للعراق، ومن اسقاط النظام العائلي-البعثي الذي أقامه صدّام حسين، أفضل استفادة.

قبل كل شيء، لا مفرّ من الاعتراف بأن هناك حرباً أهلية ذات طابع مذهبي تدور في العراق حالياً، والسؤال المطروح هو ذاته منذ أشهر عدة: هل يمكن وقف الحرب الأهلية، أم فات أوان ذلك؟ ومن في حاجة الى مثل جديد يؤكد ذلك يستطيع العودة الى الأحداث التي شهدها البلد قبل أيام، خصوصاً العمل الإرهابي المتمثل في تفجير ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء، وردود الفعل التي تلت هذا العمل الشنيع، وقد شملت اعتداءات على مساجد لأهل السنّة في بغداد، خصوصاً في أحياء مختلطة. إذا لم تكن هذه حرب أهلية، فما هي الحرب الأهلية أذا؟!

يأتي هذا التطور الخطير في وقت تواجه عملية تشكيل حكومة عراقية جديدة صعوبات حقيقية وتدخل إيراني مؤثر.

التدخل الإيراني في العراق مرتبط إلى حد كبير بالمواجهة التي تدور حالياً بين إيران وبين المجتمع الدولي، ومحور المواجهة البرنامج النووي الذي تصرّ طهران على السير فيه من دون تقديم ضمانات كافية لجهة أنها لا تنوي إنتاج سلاح نووي. كلّ ما في الأمر أن النظام الإيراني يعتبر العراق ورقة أساسية في هذه المواجهة، ويعتبر خصوصاً أنه الطرف الأقوى في العراق، وأن جنود أميركا وبريطانيا الذين نفّذوا له حلمه القديم القاضي بإسقاط نظام صدّام، تحوّلوا مجرد رهائن لديه.

مثل هذا المنطق صحيح وسليم الى حدّ كبير، نظراً الى أن كلّ خطوة أقدمت عليها الإدارة الأميركية، منذ بدء الإعداد لاحتلال العراق، صبّت في مصلحة النظام الإيراني، وذلك وصولاً الى ما آلت إليه الحال الآن، إذ أصبح في استطاعة أنصار طهران في العراق وخارجه اتهام الإدارة الأميركية بتفجير المرقد المقدّس في سامراء!

لا حاجة الى تأكيد أن برنامج المعارضة العراقية الذي اعتمد في مؤتمر لندن أواخر العام 2002 تحدّث صراحة عن quot;الأكثرية الشيعية في العراقquot; بدل أن يتحدّث عن الأكثرية العربية التي تضم الشيعة والسنّة من أهل العراق. ولا حاجة الى التذكير بأن مجلس الحكم الانتقالي الذي تشكّل بعد الاحتلال، تعمّد إظهار أهل السنة من العرب في مظهر الأقلية المهمّشة التي لا دور لها في تحديد مستقبل البلد. ولا حاجة الى التذكير بأنه سبق ذلك اتخاذ قرار بحلّ الجيش العراقي، وهو قرار شرّد عشرات الآلاف من الآباء الذين يعيلون عائلاتهم، ودفعهم دفعاً في اتجاه المنظمات الإرهابية المرتبطة بـquot;القاعدةquot; وما شاكلها. ولا حاجة الى التذكير بالإصرار على التنفيذ العشوائي لقرار اجتثاث البعث من جذوره، بما ألحق الظلم بعشرات الآلاف من الأبرياء الذين كانوا مجبرين على الانتماء الى هذا الحزب السخيف والمتخلّف، ولكن الذي لم يكن أكثر سخفاً وتخلّفاً من بعض الأحزاب المذهبية التي تسيطر حالياً على الحياة الاجتماعية والسياسية في البلد.

في الإمكان إيراد عشرات الأمثلة عن الأخطاء التي ارتكبها مسؤولو الإدارة الأميركية في العراق، وهي أخطاء يسعون الى إصلاحها الآن بعد فوات الأوان عن طريق السعي الى إعادة التوازن السياسي الى البلد. كيف يمكن السعي الى إعادة مثل هذا التوازن السياسي بعدما صارت ميليشيات في السلطة؟ صارت هناك وزارات تابعة لأحزاب معيّنة تمتلك ميلشيات بكل معنى الكلمة، وتفرض على المواطن العراقي نمط حياة معيّناً.

هل يدرك الأميركيون، ومعهم البريطانيون، أن مناطق في جنوب العراق صارت أقرب الى أن تكون محافظة إيرانية من أي شيء آخر؟! وأن ما ينطبق على جنوب العراق، ينطبق الى حدّ كبيرعلى مناطق وأحياء معيّنة في بغداد؟ هل يدرك الأميركيون والبريطانيون أن الإرهاب الذي تمارسه منظمات سنّية متطرفة يسمى المنتمون اليها بالتكفيريين، يقابل بإرهاب من نوع آخر تمارسه ميليشيات بعضها تابع لأحزاب معيّنة، والبعض الآخر لوزارات معيّنة، ميليشيات تخطف وتقتل على الهوية المذهبية؟

من حسن الحظ أنه لا يزال في العراق رجال دولة، مثل رئيس الجمهورية جلال طالباني، يدعون الى التروّي وتهدئة الخواطر، واعتماد المنطق والاعتدال بعيداً عن اي نوع من التهوّر، لكن ذلك لا يبدو كافياً لوقف الحرب الأهلية التي تجعل من الصعب تشكيل حكومة جديدة متوازنة بعد كلّ الأخطاء التي ارتكبها الأميركيون الذين يحصدون ما زرعوه منذ ما قبل دخول قواتهم الى العراق واحتلال بغداد وإسقاط صدّام وزمرته.

زرع الأميركيون بذور الفتنة التي ارتدّت عليهم في العراق، زرعوا بذور المذهبية غير آبهين بمخاطر ذلك على بلد متعدد الأديان والطوائف والقوميّات. لم يدركوا في أي لحظة نتائج ما فعلوه، اللهم الاّ إذا كان هدفهم منذ البداية تفتيت العراق تمهيداً لتقسيمه. لم يدركوا نتائج ما فعلوه. وعندما يحاولون هذه الأيام، عبر سفيرهم زلماي خليل زاد أو عبر وزير الخارجية البريطاني جاك سترو، استبعاد المحسوبين على النظام الإيراني عن رئاسة الحكومة أو وزارة الداخلية أو وزارة الدفاع، فإنهم ينسون أن النفوذ الإيراني أكبر بكثير مما يعتقدون، وأنه تجاوز مسألة السيطرة على وزارة معينة وحتى على موقع رئيس الوزراء؛ إن هذا النفوذ من القوة الى درجة يسمح وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي لنفسه بالدعوة من بيروت الى انسحاب القوات البريطانية من جنوب العراق.

في أفغانستان، كان أسامة بن لادن صنيعة الأجهزة الأميركية التي استثمرت في quot;المجاهدين العربquot; طويلاً في مواجهة الاحتلال السوفياتي للبلد، كذلك النظام الذي أقامته quot;طالبانquot; لاحقاً وقد حظيت في البداية برعاية الأميركيين وتشجيعهم، إضافة بالطبع الى الدعم المباشر للاستخبارات العسكرية الباكستانية. في أحد الأيام، وكان يوم 11 سبتمبر 2001، اكتشف الأميركيون أخيراً كيف انقلب السحر على الساحر، علماً أن المؤشرات على هذا الانقلاب كانت كثيرة.

شيء شبيه بذلك يحصل حالياً في العراق، مع فارق أن انقلاب السحر على الساحر في هذا البلد النفطي الواقع في قلب منطقة تزوّد العالم الصناعي كله بنسبة كبيرة من الطاقة التي يحتاجها، ستكون له انعكاسات في غاية الخطورة على الصعيدين الإقليمي والدولي. كلّ ما في الأمر أن ما تعرّضت له أميركا والعالم جراء السماح بأن تكون هناك قاعدة لـquot;القاعدةquot; في أفغانستان، سيكون بمثابة نزهة مقارنة مع ما يمكن أن يحصل في حال عدم القدرة على تدارك الوضع في العراق واستيعابه. في أفغانستان كانت هناك quot;القاعدةquot; التي نفّذت عشرات العمليات الإرهابية. وفي العراق، سيكتشف الأميركيون بسبب سياستهم الحمقاء أن quot;القاعدةquot; صارت quot;قواعدquot;، لا همّ لها سوى ممارسة الإرهاب من دون تمييز بين الضحايا، أكانوا سنة أو شيعة أو عراقيين أو اميركيين! كم ستدفع أميركا غالياً ثمن عدم استشارة أهل المنطقة قبل السير الى النهاية في مغامرتها العراقية!