د. وائل مرزا

حين تتكررُ تفاصيل المشهد أمام ناظريك، وأحيانا إلى حد الملل، تشعر بأن لديك مشروعيةً في تكرار توصيفك له. هل يشعر الفنان بتلك المشاعر حين يحاول أن يرسم لوحة جديدة لمشهدٍ مألوف؟ هل تراوده تلك الأفكار كما تراود الكاتب حين يدرك أنه ملزمٌ أدبياً بكتابة مقال سنويٍ يتيم عن مشهد عربي طويل: مشهد القمة العربية.

لا تتعلق المسألة بعدم القدرة على الإتيان بجديد، فالكلام صناعة العرب، والأفكار أكثر من (الهمّ على القلب) كما يقول أهل الشام. وإنما تتمثل في البحث عن الجديد من خلال تفحّص القديم. ومن خلال استحضار رؤيتنا له للبحث عن أسباب هذا (الثبات) في عالم سِمَتُهُ الأساسية هي (التغيير).

في مقالي السنوي عن القمة العربية قبل عامين كان العنوان شطراً من بيتٍ لنزار قباني (أنا ياصديقة متعبٌ بعروبتي). بدأتُ المقال بالشطر الثاني (فهل العروبة لعنةٌ وعقاب؟) وتساءلتُ عما كان يمكن للشاعر الذي أرّخ للهزيمة العربية شِعراً أن يقوله لو عاش ملابسات تلك الأيام. حيث تم إلغاء القمة في يومها الأول ليعاد عقدها بعد ذلك بأسابيع. ثم تابعتُ تساؤلي قائلاً (إذا كان معروفاً أن كثيراً من العرب صدموا لما حدث، أليست مفارقةً ذات دلالات أن الغالبية العظمى منهم كانت تتنبأ بفشل القمة من قبل أن تبدأ؟ ألم تبشرنا وسائل الإعلام العربية مسبقاً بأن هذا الفشل قادم لا محالة؟ هنا لابد أن يسأل الإنسان نفسه: علام تدل هذه المفارقة؟ كيف يمكن لإنسان أن يتوقع حصول شيء إلى درجة تقترب من اليقين ثم يكون ردُّ فعله عند وقوعها أقرب إلى الفجيعة والشعور بالمأساة؟ ألا يمكن أن يكون التفسير كامناً في أن الوصول إلى قمة اليأس من واقعٍ ما أو من جهةٍ ما تدل أحياناً على أن هناك في الأعماق ثمة أملاً كبيراً في ذلك الواقع وفي تلك الجهة؟ وأن مجرد استخدام مصطلح خيبة الأمل يوحي مباشرة بأن الموضوع له علاقة أساساً بوجود أمل..) عند البحث عن مغزى تلك الظاهرة خلصت إلى أن (هناك على الأقل دلالة من كل ما حصل لابد من بحثها إن لم يكن الإقرار بها، ألا وهي صعوبة بل واستحالة حصول الطلاق الكامل والبائن بين النظام السياسي الرسمي العربي والنظام الشعبي العربي بالشكل الذي توحي به كثير من التعليقات والآراء والتحليلات) لماذا؟ لأن العروبة (في معناها التاريخي والثقافي، وليس بالفهم الشوفيني المتعصب لها، قدرٌ لا يمكن للغالبية العظمى من العرب الهروب منه. لأنهم محاصرون بالتاريخ ومحاصرون بالجغرافيا ومحاصرون بالثقافة ومحاصرون باللغة ومحاصرون بالسياسة ومحاصرون قبل ذلك كله وبعده بالمصير المشترك، بل ومحاصرون حتى بطبيعة السحنة ولون الجلد وطريقة نظرة العيون).

دارت الأرض حول شمسها دورةً كاملة وجاء موعد القمة التالية. فكتبتُ في مناسبتها العامَ الماضي مقالا بعنوان (العروبة.. ورطة ليس منها مخرج). كان كل ما فعلتُه أنني قرأت بعض الحقائق من دفتر الواقع العربي ثم سجلتها في المقال قائلا (لا يأتي موسم القمة العربية كل عام. إلا وتأتي معه كل ما يمكن لك أن تتخيله من اتهامات للعرب والعروبة. يهاجم العرب أنفسهم قبل أن يهاجمهم الآخرون. يهجون ذاتهم .يصدحون في هذا الموسم بجميع سيمفونيات الاتهام والنقد وحتى الشتيمة لشعوبهم ودولهم ومؤسساتهم وحاضرهم ومستقبلهم. تتكرر القصائد والتحليلات والدراسات والمقالات والتصريحات عن عجز مؤسسة الجامعة العربية. عن الانقسام العربي. عن فشل العمل العربي المشترك. يقاطع القمة زعماء. بعضهم لأسباب منطقية وموضوعية. والآخرون لأسباب لا يعلم بها إلا الله (والراسخون في العلم)..

ورغم ذلك تُعقد القمة. وتشارك فيها كل دولة عربية. مهما كان مستوى تمثيلها صغيرا. ثم ينفضُّ السامر. وبعيدا عن التفاصيل، تبقى مناسبة انعقاد القمة العربية دليلا عمليا أقوى من كل كلام عن طبيعة هذا الرابط المسمى (عروبة).

سيشعر كثير من العرب بالضجر والملل. وربما حتى بالنفور من انتمائهم. لكن قلّةً قليلةً لا يُعتدُّ بها ستجرؤ على تقديم استقالةٍ معلنةٍ من ذلك الانتماء. أما البقية، فلا مفر أمامهم من التعايش معه. وبما أن التعايش مع الضجر والملل والنفور يصبح مستحيلا في مرحلة معينة. لن يكون أمامهم عندها خيار آخر غير الإصلاح والتغيير والتصحيح.

ستحاول كثير من الأنظمة أن تتصرف بوحي مصالحها الوطنية الخاصة. غير أنها ستدرك عاجلا أو آجلا حجم التداخل والتشابك المعقّد بين المصالح العربية. وسترى استحالة فك ذلك التشابك. عندها أيضا سيتبين أنه ليس ثمة خيار ثان وأن الخيار المطروح وحيد: الإصلاح والتغيير والتصحيح.

سيحاول البعض أن يتماهى مع (الواقع العالمي) الجديد.. ثم لا يلبث أن يوقن أن هناك حدودا لايمكن له أن يتجاوزها. سيتقدم البعض الآخر خطوات، ويحاول أن (يدفع) العرب للتماهي مع ذلك الواقع العالمي الجديد. لكنه سيجد واحدا على الأقل من (الجدران) التاريخية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والجغرافية لهذا البيت العربي الكبير أمامه في كل خطوة وعلى كل مفترق..

ليست هذه مرافعةً عاطفية عن العروبة. ولا هي للتبشير بغدٍ عربيٍ قريبٍ مليء بالورود والرياحين. إنما هي محاولة للقراءة من خلال قوانين التاريخ وقوانين الاجتماع البشري وقوانين الواقع).

هل تغير شيء في مشهد القمة العربية الأسبوع الماضي؟ الجواب واضح إلى درجةٍ تبعث في النفس الحرج من طرح السؤال: عُقدت القمة. وشاركت فيها كل دولة عربية مهما كان تمثيلها صغيرا. عبّر الكثيرون عن شعورهم بالضجر والملل كلٌ بطريقته. ثم انفض السامر، وانتهى هذا البروتوكول السنوي الذي أصبح مصدرا للهمّ والحرج أكثر من كونه أي شيء آخر.

رغم ذلك، قد يكون الجديد الوحيد في الموضوع هو تأكيد الحقائق المذكورة أعلاه من خلال إحجام الحكومات العربية عن تقديم استقالة رسمية معلنة ونهائية. رغم كل الآراء والمواقف المتداولة في الدوائر الداخلية لصناعة القرار..

لقد تساءلتُ العام الماضي عن مغزى حرص شخصيات عالمية على حضور القمة. ولفتَ نظري في القمة الأخيرة أيضاً حضور رئيس الوزراء التركي وغيره من الشخصيات العالمية. ولا أزال عند رأيي في تفسير هذه الظاهرة: إن (الآخرين) يدركون أهمية الكتلة العربية رغم كل ما فيها من اهتراء. لكن الأهم أنهم يدركون أن وجود تلك (الكتلة) يبدو أمراً حتمياً لا مهرب منه بأبسط قراءة للجغرافيا السياسية للمنطقة.

لهذا لا يمكننا إلا أن نكرر القول بأنه يمكن للعرب أن يستمروا (في جَلد ذاتهم. يمكن لهم أن يمعنوا في ممارساتهم التي توحي بأن توافقهم مستحيل. يمكن لهم أن يظلوا دائرين في هذه الحلقة المفرغة إلى ماشاء الله. ولكن، لا يمكنهم أن يغيروا حقائق التاريخ والجغرافيا قيد أنملة. لا مخرج للعرب من هذا الشيء المسمى عروبة. ولكن عجب المرء لا ينقضي من هذه المفارقة. حين يكون شيءٌ ما هو الداء والدواء. فيه المشكلة وفيه الحل. لهذا. وإلى أن يجد العرب أنفسهم ستبقى العروبة بالنسبة إليهم (أمرا لا فكاك منه). وفي أقل الأحوال. غصةً في حلق الكثيرين ليس منها شفاء).

* كاتب عربي

[email protected]