الإثنين: 2006.05.08


رسالة أنقرةrlm;:rlm; عبد الحليم غزالي

من المؤكد أن الخطاب الذي ألقاه رئيس البرلمان التركي بولنت أرنج في الذكري الـrlm;74rlm; لتأسيسه كان له مفعول القنبلة السياسية ثقيلة العيار سواء بالمفاجأة التي انطوت عليها كلماتهrlm;,rlm; أو بفتح ملف العلمانية المعقد في مناسبة رسمية حضرها كل رموز الدولةrlm;,rlm; فضلا عن الجرأة غير المسبوقة في تقديم انتقادات لاذعة لبعض مؤسسات الجمهورية وتحديدا الجيش ومجلس الأمن القومي والرئيسrlm;,rlm; صحيح أنها ضمنية لكنها تأتي لأول مرة ربما في تاريخ البلاد من منصة رئاسة البرلمانrlm;.rlm;

ولم يكن غريبا بعد ذلك أن يستخدم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان تعبير الثورة الصامتة التي قال إن حزبه العدالة والتنمية ذا الجذور الإسلامية الذي ينتمي إليه أرنتش يقوم بها منذ توليه السلطة في البلاد إثر فوزه الكاسح في الانتخابات البرلمانية التي جرت في نوفمبر عامrlm;2002,rlm; كما كان منطقيا أن تقابل المعارضة العلمانية التي يقودها حزب الشعب الجمهوري بحالة من الهياج والصخب وصلت إلي حد تشبيه أرنج بالرئيس الإيراني أحمدي نجاد ذي التعبيرات المثيرة للجدلrlm;.rlm;

وحتي يمكننا فهم الضجة التي خلفها خطاب أرنجrlm;,rlm; لابد من الإشارة إلي أنه سبق ذلك هجوم علي مرحلتين من الرئيس سيزار علي حزب العدالة والتنمية الحاكمrlm;,rlm; في الأولي أبدي فيها رفضه لمشاركة المتدينين في الحياة السياسيةrlm;,rlm; وهو أمر ينطوي علي رغبة في نفي كامل للحزب الحاكم الذي يعد جل قياداته وأعضائه من المتدينين الملتزمين الذين ترتدي زوجاتهم الحجاب وعلي رأسهم أردوغان وارنج ونائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية والرجل الثاني في الحزب عبدالله جولrlm;,rlm; مما استدعي ردا حادا من أردوغان الذي قالrlm;:rlm; إن الشعب لن يغفر له هذا الكلامrlm;,rlm; وفي المرحلة الثانية من الهجوم أطلق تحذيرا مما وصف بتغلغل الأصوليين في مؤسسات الدولة بما يشكل تهديدا خطيرا للقيم العلمانية للدولةrlm;,rlm; في إشارة لتعيينات الحكومة لأنصار الحزب الحاكم في الوظائف البيروقراطية للدولةrlm;,rlm; رغم أن سيزار نفسه أعاق الكثير من هذه التعيينات بدعوي الأنشطة الرجعية للمرشحين لهrlm;,rlm; وهو تعبير يستخدم في أدبيات العلمانيين الأتراك للحديث عن ذوي الميول الدينيةrlm;.rlm;

صراع المؤسسات
والآن نأتي لأهم ما جاء في خطاب أرنجrlm;,rlm; حيث شمل الآتيrlm;:rlm;
rlm;*rlm; أولاrlm;:rlm; تآكل سلطة البرلمان منذ الانقلاب العسكري في عامrlm;1960rlm; لمصلحة مؤسسات الدولة الأخري مع تعاظم سلطة البيروقراطيةrlm;,rlm; قائلاrlm;:rlm; إنه رغم إلغاء السلطنة في تركيا قبلrlm;84rlm; عاما فإن هناك سلطنة لبعض مؤسسات الدولةrlm;,rlm; وضرب أرنج مثلا علي ذلك باستبعاد البرلمان ولجانه من إعداد وثيقة الأمن القومي الأخيرةrlm;,rlm; بل عدم اطلاعه عليهاrlm;,rlm; والمعروف أن مجلس الوزراء أعد هذه الوثيقة وأقرها مجلس الأمن القومي الذي لايزال الجيش يهيمن عليه فعلياrlm;,rlm; رغم الإصلاحات السياسية والتشريعية التي شهدتها البلاد وحدت من نفوذه في إطار مساعي التأهل لنيل عضوية الاتحاد الأوروبيrlm;.rlm;
rlm;
*rlm; ثانياrlm;:rlm; وجود ما سماه أرنج الدستور السري للبلاد أو الكتاب الأحمر أو الدستور العميق وكلها تعبيرات عن دستور آخر يعتبره بعض الساسة مرجعيتهم في الكثير من الخطب والتصريحات والمناقشاتrlm;,rlm; وهذا لا يليق بدولة ديمقراطية وفقا لما ذكره أرنجrlm;.rlm;
rlm;
*rlm; ثالثاrlm;:rlm; تعتبر بعض مؤسسات الدولة أن لها الأفضليةrlm;,rlm; بل الفوقية في البلادrlm;,rlm; خلافا للقيم الديمقراطيةrlm;,rlm; في إشارة واضحة للجيش والرئيس والسلطة القضائيةrlm;.rlm;
rlm;
*rlm; رابعاrlm;:rlm; النظام في تركيا ليس ضعيفا لكي يقال إنه يهتز ويترنح كلما شهدت البلاد خلافا بين مؤسساتهrlm;,rlm; فالمشكلة ليست في النظامrlm;,rlm; ولكن حول ملكية هذا النظام ومن يفقد السلطة ومن يحصل عليهاrlm;.rlm;
rlm;
*rlm; خامساrlm;:rlm; لا خلاف حول مبدأ العلمانيةrlm;,rlm; لكن النزاعات تأتي من التفسيرات المتباينة لهrlm;,rlm; ويجب حدوث مناقشات عامة بشأن أي مشكلة في إطار من المساواة بين المواطنينrlm;,rlm; وعلي الدولة أن تقوم بتأمين الساحة العامة لاستخدامها من جميع الأطرافrlm;,rlm; والمعني الذي يقصده أرنج رفض احتكار أي مؤسسة مثل الجيش لتفسير وحماية العلمانيةrlm;,rlm; والأمر نفسه ينطبق علي الرئيس والقضاء والمعارضةrlm;.rlm;
rlm;
*rlm; سادساrlm;:rlm; لا يمكن للدولة أن تمنع عن بعض المواطنين حقوقهم لمصلحة فئات أخري من المجتمعrlm;,rlm; والإشارة هنا واضحة لحق النساء في ارتداء الحجاب في الجامعات والمؤسسات التابعة للدولةrlm;,rlm; وحق طلاب المدارس الدينية في دخول جميع الكليات الجامعيةrlm;,rlm; حسب مواقف الحزب الحاكم وقياداتهrlm;.rlm;

ملامح الخطاب
وبالقطع حمل خطاب أرنج معني المفاجأة الكاملة للجميعrlm;,rlm; فهو ليس رد فعل أو فورة عاطفية عابرةrlm;,rlm; بل يبدو معدا بدقة شديدة وهناك اختيار عميق لكلماتهrlm;,rlm; وأهم ما يمكن قراءته في هذا الخطاب يتمثل في الآتيrlm;:rlm;
rlm;
*rlm; أولاrlm;:rlm; منذ تأسيس الجمهورية التركية علي يد الزعيم مصطفي كمال أتاتورك عامrlm;1923rlm; تقريبا لم تتم إثارة قضية العلمانية والصراع بين مؤسسات الدولة علي السلطات علي هذا المستويrlm;,rlm; والمعني أن القضية تعيش بقوة في المشهد السياسي التركي ولم يصبح التستر عليها أو الخوف من الخوض فيها أمرا ممكناrlm;,rlm; خاصة أنها تقترن بأزمة هوية لتركياrlm;,rlm; وكان من المعتقد أن مجيء حزب العدالة والتنمية إلي السلطة سينهي هذه الأزمةrlm;,rlm; حيث نظر إليه علي أنه بمثابة تعبير عن حل وسط لهذه الأزمة وجوهرها الانقسام بين التدين العميق لغالبية الأتراك ورفض وجود أي دور للدين الإسلامي في الحياة السياسيةrlm;,rlm; فالتركيبة الجديدة التي جاء بها الحزب وهي المسلمون الملتزمون دينيا المؤمنون بالديمقراطية وفصل الدين عن الدولة كما يقولون في تفسيرهم للعلمانية لم تنه الصراع بين الإسلاميين والجيش ومؤسسات الدولة الأخري التي تتبني تفسيرا متشددا للعلمانية لايزال هناك من يعتبره منطلقا من إلغاء الآخرrlm;,rlm; في حين توجه اتهامات للإسلاميين الجدد ممثلين في حزب العدالة والتنمية بالتظاهر بقبول العلمانية ووجود أجندة سرية لأسلمة النظام وربما إقامة دولة دينيةrlm;.rlm;
rlm;
*rlm; ثانياrlm;:rlm; إذا كان الجيش الذي يعتبر نفسه حارس القيم العلمانية ـ ومعه الرئيس والقضاء والمعارضة ـ لا يترك مناسبة للتحذير من خطورة الميول الدينية لحكومة أردوغان وحزبه وأنصارهماrlm;,rlm; بل يقف حجر عثرة أمام بعض التغييرات التي ترضي هذه الميول مثل إلغاء حظر الحجاب في الجامعات ومؤسسات الدولةrlm;,rlm; فها هو أرنج يعبر بقوة وبوضوح ومن فوق منصة جلس عليها أتاتورك يوما ما عن الرأي الآخرrlm;,rlm; الأمر الذي يعكس تعاظم الرفض من جانب من يعتبرون أنفسهم أغلبية لمواقف الجيش والنخبة ذات الميول العلمانية المتطرفة المعادية لكل ما هو ديني للوضع السائد الذي ينطوي علي تحكم الأقلية في الأغلبيةrlm;,rlm; حسبما يهمس أعضاء الحزب الحاكم سراrlm;.rlm; وهنا لابد من الإشارة إلي أن الحزب الحاكم عجز عن السعي لإلغاء حظر الحجاب والسماح لطلاب مدارس الأئمة والخطباء بدخول جميع الكليات الجامعية رغم أنه كان يمتلك أغلبية ثلثي مقاعد البرلمان بعد فوزه في الانتخابات بسبب فيتو الجيش تحديداrlm;,rlm; وهو أمر ينطوي علي خلل ملحوظ ويعكس عدم التوازن بين سلطات مؤسسات الدولةrlm;.rlm;
rlm;
*rlm; ثالثاrlm;:rlm; اتضح من ردود الفعل علي خطاب أرنج أنه لم يستشر أردوغان أو قيادات الحزب في إثارة هذه القضايا الخطيرةrlm;,rlm; فرغم استحسان معظم النواب لكلام رئيسهمrlm;,rlm; فإن نائب رئيس الوزراء محمد علي شاهين انتقد أرنج علناrlm;,rlm; كما نال الرجل انتقادا ضمنيا من أردوغان الذي رأي أن الوقت غير مناسب لطرح هذا الكلام رغم تلميحه لاتفاقه مع جوهره بالقول إن الأمة هي مصدر السيادة والسلطاتrlm;,rlm; وهو تعبير سبق أن استخدمه في رفض غير مباشر لتدخل الجيش في الحياة السياسيةrlm;.rlm;

والأهم في موقف أردوغان أنه استخدم تعبير الثورة الصامتة في الحديث عن منجزات حزبه منذ توليه السلطةrlm;,rlm; وهو أمر هناك من فسره علي أنه تنافس في الجرأة بين أردوغان وأرنجrlm;!!rlm;
rlm;
*rlm; رابعاrlm;:rlm; هناك من اعتبر أن كلام أرنج تعبير عن رفض التيار المتشدد في حزب العدالة والتنمية الأكثر اقترابا من القيم الدينية لسياسة المهادنة مع الجيش والرئيس والقضاء التي يتبعها أردوغانrlm;,rlm; حيث يري هذا التيار أنه آن الأوان للاستجابة لمطالب ناخبي الحزب وأنصارهrlm;,rlm; خاصة فيما يخص قضيتي الحجاب ومدارس الأئمة والخطباءrlm;,rlm; والمثير أن أرنج أجلس طالبا في إحدي هذه المدارس في مقعده في إطار التقليد السنوي الذي يتم في الاحتفالات بعيد تأسيس البرلمانrlm;,rlm; وهو أمر لا يخلو من دلالات التحدي للعلمانيين المتشددينrlm;,rlm; وفي مقدمتهم قيادات الجيشrlm;.rlm;
rlm;
*rlm; خامساrlm;:rlm; ثمة من رأي هدفا خفيا وراء خطاب أرنج المثير هو طرح نفسه كرئيس للجمهورية بدلا من سيزار الذي ستنتهي مدة ولايته العام المقبلrlm;,rlm; والمعروف أن الجيش والمعارضة سيقفان ضد مثل هذه الخطوةrlm;,rlm; نظرا لكون زوجة أرنج منور هانم محجبةrlm;,rlm; وكاد هذا الأمر يعوق انتخابه رئيسا للبرلمانrlm;,rlm; لكنه أصر علي ترشيح نفسه للمنصبrlm;,rlm; واضطر أردوغان لقبول ذلك خشية حدوث انقسام في الحزبrlm;,rlm; رغم أنه كان يؤيد تولي وجدي جونول وزير الدفاع الحالي الذي يوصف بالاعتدال وزوجته غير محجبة للمنصبrlm;,rlm; ويبدو أن أرنج يريد أن يعيد الكرة مرة أخريrlm;,rlm; خاصة أن الحزب الحاكم لديه الأغلبية التي تمكنه من فرض مرشحه في عملية الانتخاب التي ستتم داخل البرلمان وليس من خلال اقتراع عامrlm;.rlm;

واللافت للانتباه أن الجيش والرئيس امتنعا عن الرد علي خطاب أرنج المثيرrlm;,rlm; وهو ما تم تفسيره علي أنه محاولة لمنعه من التحول لبطل للديمقراطية والمبادئrlm;,rlm; فضلا عن تجنيب البلاد أزمةrlm;,rlm; حيث الجهود مركزة علي مواجهة متمردي حزب العمال الكردستانيrlm;.rlm;

وقد حاول حزب الشعب الجمهوري الذي يقود المعارضة البرلمانية إثارة الكثير من الصخب حول خطاب أرنجrlm;,rlm; وكان لافتا قول زعيم الحزب دينيز بايكال إن تركيا لا تحتاج لأحمدي نجاد آخرrlm;,rlm; في إشارة للرئيس الإيراني الذي أصبح معروفا بخطبه وتصريحاته الناريةrlm;,rlm; واتهم بايكال الحزب الحاكم بمحاولة العودة بالبلاد إلي العصور الوسطيrlm;,rlm; لكن يبدو أن المعارضة فشلت في تحويل الأمر إلي قضية رأي عام تستميل فيه العامة إليهاrlm;,rlm; وهو ما يبدو صعبا في مسألة كهذهrlm;,rlm; والحق أن مشكلة هذه المعارضة هي التحول إلي مكبر صوت لردود الأفعال وعدم إيجاد مبادرات تحرج الحكومة وحزبهاrlm;.rlm;

مهما يكن توصيف ما جريrlm;,rlm; فإننا أمام طرح تاريخي في تركيا وتوصيف لصراع مزمنrlm;,rlm; لم يعد من الممكن تجاهلهrlm;,rlm; صحيح أنه ليس هناك ما يشير إلي احتمال حدوث انقلاب قريب في معادلة السلطات التي تحدث عنها أرنجrlm;,rlm; لكن القدسية التي أحاط بها البعض المواقف سابقة التجهيز للدولة في قضايا جوهرية مثل العلمانية لم تعد كذلكrlm;,rlm; كون مهاجمها في هذه المرة هو أحد رموز الدولةrlm;!.rlm;