صبحي حديدي
بدل أن يقتدي بالحكمة النبوية: إذا ابتُليتم بالمعاصي فاستتروا، شاء وزير الخارجية السوري وليد المعلم أن يقول ما يعيد تذكيرنا بحكمة أخري مأثورة، بعد تعديلها قليلاً: نُسمعكم جعجعة، الكثير الكثير منها ولا نريكم طحناً، أي طحن!
ففي الدقائق الأولي بعد وصوله إلي لبنان (عن طريق حمص ـ طرابلس، لأن الطيران الإسرائيلي دك طريق دمشق ـ بيروت)، في زيارة هي الأولي منذ الإنسحاب العسكري السوري من الأراضي اللبنانية، ذهب المعلم إلي جعجعة لفظية ذات شقين: أن النظام السوري يقول أهلاً وسهلاً للحرب الإقليمية، خصوصاً وأن سورية بدأت تستعد، ولا نخفي استعدادنا، وسنرد علي أي اعتداء اسرائيلي فوراً ؛ وأنه، شخصياً، مستعد أن يكون جندياً عند (الأمين العام لـ حزب الله ) السيد حسن نصر الله .
الأرجح أن السيد نصر الله لن يكون سعيداً بتجنيد هذا المتطوع بالذات، في رخاء السلم كما الآن في شدة الحرب، لأسباب تتجاوز بكثير تلك الاعتبارات المبدئية التي تخص اللياقة البدنية للمقاتل. والأرجح كذلك، بل المنطقي البسيط، أن السيد كان سيسعد أكثر لو أن وحدات الهندسة في الجيش السوري جازفت (لكي لا نقول: تحدت آلة العدوان الإسرائيلية) فأصلحت طريق بيروت ـ دمشق عند نقطة المصنع، لا لكي يدلف منها المعلم إلي لبنان، بل لكي تُستأنف من جديد حركة العبور الطبيعية بين البلدين، ويُتاح للمهجرين خصوصاً أن يجدوا بعض الملاذ الآمن لدي أشقائهم السوريين.
وبالطبع، مَن يصغي إلي المعلم وهو ينذر بأن الرد السوري سوف يكون فورياً، يخال أن الدولة العبرية لم تعتدِ حتي الآن علي السيادة السورية، ولم تخرق الأجواء السورية، ولم تحلق فوق القصور الرئاسية، ولم تقصف داخل العمق السوري، ولم تمارس الاغتيال الفردي لبعض القيادات الفلسطينية الإسلامية اللاجئة في دمشق... أو لعل المرء ذاته سوف يظن أن الجيش السوري قادر، بالفعل، علي الرد الفوري وإنزال أفدح الخسائر بالعدو، وما امتناعه عن الرد إلا لأن العدو لم يتجاسر علي الاعتداء، أو ـ وفق الحكمة الرسمية الشائعة ـ لأن القيادة السورية لا تؤمن بردود الأفعال، ولا تقع في فخ الاستفزاز، وهي التي تحدد مكان وزمان الرد!
وضمن روحية الجعجعة إياها، ولكن علي نحو أشد ركوناً إلي الخطاب الأجوف، روت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية أن المعلم اشترط علي أية قمة عربية أن يبدأ جدول أعمالها من تجييش الجيوش وإحياء سلاح النفط. وحين أعرب عبد الرحمن شلقم، أمين اللجنة الشعبية الليبية للاتصال الخارجي والتعاون، عن ضيقه بـ شعارات المعلم هذه، رد الأخير باختيال وفخار: إننا نعبر عن الكرامة والصمود والتضحية . وبالطبع، مَن يلوم شلقم إذا رد للمعلم الصاع صاعين: لماذا لا تطبقها إذاً في الجولان!
وهكذا، أسمعنا وزير الخارجية السوري جعجعة، ولم نر طحناً من أي نوع، حتي علي مستوي إصلاح طريق بيروت ـ دمشق. غير أن ألعاب الجعجعة هذه، وأي طراز آخر سواها مما عودنا عليه النظام السوري طيلة عقود، لا تُقارن البتة بأخطار الرسالة الأخري التي حملها المعلم إلي بيروت، أي إنذار اللبنانيين بأن الحرب الأهلية قادمة، أو بالأحري عائدة، من جديد. صحيح أنه ربط تلك الاحتمالات بمشروع القرار الأمريكي ـ الفرنسي، فاعتبره وصفة لاحتمال اندلاع حرب أهلية في لبنان ، إلا أن تركيز المعلم علي المزج الدائم بين هذه الوصفة والـ توافق اللبناني حولها (أي: إجماع جميع القوي، وعلي رأسها تلك الحليفة للنظام السوري) كان يوحي بأن التوافق الغائب بالضرورة لن يخلي الساحة إلا للوصفة القاتلة.
وهذا الربط يتناغم مع دعوات الترويج الذاتي التي أطلقها السفير السوري في واشنطن، عماد مصطفي، حول الدور الذي يمكن أن تلعبه دمشق في الأزمة الراهنة، وفي شطر تهدئة حزب الله بصفة خاصة (ورغم النفي الرسمي الكاريكاتوري، كان هذا ما نقله وزير الخارجية الإسباني ميغيل أنخيل موراتينوس علي لسان بشار الأسد شخصياً). والحال أن هذا الطراز من الإتجار العلني بمأساة اللبنانيين، في ذروة انفلات البربرية الإسرائيلية من كل عقال، هو في الآن ذاته طراز من الإتجار الضمني بمأساة الحليف الذي يخوض الحرب، أي حزب الله في الواجهة وعلي الأرض. وهو، أيضاً، وفي الخلفية السياسية الأبعد، صيغة غير مباشرة للإتجار بإيران، التي تبدوـ أكثر من أي وقت مضي، منذ تأسيس حزب الله في عام 1982 ـ لاعباً محلياً مباشراً وذا صلة وثيقة وعضوية.
وفي العدد الأخير من أسبوعية نيوزويك الأمريكية، يروي روبرت باير، رجل المخابرات المركزية المتقاعد وصاحب كتاب في سرير الشيطان: كيف باعت واشنطن روحنا للخام السعودي ، أنه زار دمشق في شهر آذار (مارس) الماضي، وسأل أحد رجال الأعمال السوريين المقربين من بشار الأسد، عن مستقبل لبنان، فرد بالتالي: لم يعد لبنان مشكلة سورية. لقد طردتمونا منه، فأسلمناه إلي إيران . وباير يبني علي هذه الإجابة لكي يذكر بأنه كان علي الدوام ضد ممارسة الضغط علي النظام السوري كي يسحب قواته من لبنان، لأسباب ذات صلة بما يجري اليوم تحديداً: أي ضبط حزب الله ، في الساحة اللبنانية الداخلية، كما في الجنوب وعلي امتداد الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية، وفي التأثر علي الملفات الإقليمية وخصوصاً العراق وعواقب النفوذ الإيراني في المنطقة.
وإذُ يشحذ ذاكرته كضابط سابق في الـ CIA، يروي باير الوقائع التالية للتدليل علي رأيه:
ـ في عام 1985، خُطفت طائرة الـ TWA في مطار بيروت، وجري تهديد ركابها بالإعدام، فاتصل الرئيس الأمريكي آنذاك، رونالد ريغان، بالرئيس السوري حافظ الأسد وناشده التدخل. وكان أن أوعز الأسد لضباطه في لبنان بأن يحركوا دباباتهم نحو مواقع حزب الله ، فأسفر هذا عن إطلاق سراح رهائن الطائرة.
ـ وفي عام 1987، وبعد أن خطف رجال حزب الله مراسل الـ ABC، ريشارد غلاس، مروا علي حاجز عسكري سوري وهم يظنون أنهم في مأمن، فما كان من أفراد الحاجز إلا أن أنزلوا الخاطفين من السيارة، وأشبعوهم ضرباً، وحرروا غلاس.
ـ وفي عام 1988، احتجز حزب الله اثنين من العاملين في الأمم المتحدة، بين آخرين، فهدد الأسد باعتقال الشيخ محمد حسين فضل الله، وإعدامه، إذا لم يُطلق سراح الرهائن. وكان للأسد ما أراد.
ـ وفي عام 1982 خطفت ميليشيا مسيحية القائم بالأعمال الإيراني واثنين من الدبلوماسيين الإيرانيين وصحافياً لبنانياً، فرد الحرس الثوري الإيراني، وعلي سبيل التمهيد لمبادلة ممكنة، باختطاف الرئيس التنفيذي للجامعة الامريكية في بيروت، دافيد لودج، وتهريبه إلي إيران عبر سورية. وحين احتجت واشنطن لدي الأسد، الذي لم يكن علي علم بالأمر، استشاط غضباً، وأبلغ إيران أنه سوف يطرد الحرس الثوري من لبنان ما لم يتم تحرير الرهينة. ولم يمض وقت قصير حتي كان لودج حراً طليقاً!
والحال أن باير يتناسي، لأنه لا يمكن أن ينسي، أن هذه الوقائع جرت في عهد الأسد الأب وليس الأسد الابن، وشتان بين الإثنين لجهة الحنكة والسطوة ومهارة المقايضة. كذلك جرت تلك الوقائع حين كان أكثر من 35 ألف جندي سوري يرابطون هنا وهناك في الأراضي اللبنانية، وكان في وسع الأسد الأب أن يرسل دباباته أني شاء هناك، أو أن يكلف رئيس الاستخبارات العسكرية في لبنان بالقيام بما تعجز الدبابات عن تحقيقه في الحياة السياسية والأمنية اللبنانية. وأخيراً، جرت تلك الوقائع حين كان الأسد الأب في حال سياسية إقليمية، وأخري اقتصادية داخلية، وثالثة مزاجية نفسية ربما، تسمح له بالذهاب حتي أقصي التجارة مع الولايات المتحدة، بما في ذلك إرسال القوات السورية للقتال تحت الراية الأمريكية في تحالف حفر الباطن .
كذلك يتناسي باير أن حزب الله هذه الأيام ليس حزب الله تلك الأيام، وأنه صار قوة داخلية لبنانية، سياسية وعسكرية وشعبية، تخلت بصفة شبه نهائية عن تراث خطف الرهائن والطائرات وأعمال الإرهاب اللائقة بالميليشيات، واستحقت بالتالي صفة المقاومة . وأياً كانت طبيعة الصلات الراهنة بين حزب الله والأجهزة الأمنية والعسكرية السورية، فإنها لا تُقارن نهائياً بتلك الاطوار التي أتاحت للأسد الأب أن يهدد باعتقال الشيخ فضل الله، أو بطرد الحرس الثوري الايراني. وبالفعل، لعل رجل الأعمال السوري، المقرب من الأسد الابن، أصاب كبد الحقيقة حين باح بالسر أمام دافيد باير: طردتمونا من لبنان، فأسلمناه إلي إيران!
لكن الأرباح التي تسعي تجارة الأسد الابن إلي جنيها من الحرب الراهنة (ومن خراب لبنان ، تماماً كما توعد به الأسد الابن أمام رئيس الوزراء اللبناني القتيل رفيق الحريري، موحياً بأنه الثمن الدامي الذي يتوجب أن يدفعه اللبنانيون لقاء انسحاب الجيش السوري من لبنان)، هي من نوع أرباح فائض القيمة، وليس القيمة ذاتها. ذلك لأن القيمة الحقة، إذا تحققت بالطبع، ينبغي أن تكون من نصيب حزب الله باديء ذي بدء، لأنه في الواجهة الأولي وفي الخندق الأول، بل علي الخنادق جمعاء في الواقع. ثم هي، في المقام الثاني، قيمة تخص حصة إيران لأسباب عديدة معقدة، تاريخية ومذهبية وسياسية تجعل من الجمهورية الإسلامية بمثابة القوة الأبرز الواقفة خلف حزب الله ، بما لا يُقارن البتة مع وقوف سورية... إذا جاز الحديث، أساساً، عن وقوف فعلي فعال!
كذلك فإن حزمة المصالح التي يمكن أن يتاجر بها النظام السوري مع واشنطن أو الدولة العبرية، بصدد حزب الله وعلي أي مستوي ممكن من التهدئة أو الضبط أو اللجم أو حتي الحوار البسيط، ليست قابلة للمقايضة السهلة كما هي الحال مع المصالح الإيرانية (النفوذ في العراق، وتخصيب اليورانيوم). وعن أي مغانم يبحث النظام السوري، سوي تخفيف الضغوطات الأمريكية عن النظام (وليس الضغوطات الإسرائيلية، للإيضاح الهام، لأن هذه ما تزال تعمل وفق نظرية أرييل شارون حول عدم تعكير مستنقع السلطة في سورية راهناً)، أي الإبقاء عليه فترة أخري تطول أو تقصر؟
وهل في وسع أحد أن يتجاسر اليوم علي مجرد التفكير بإعادة طرح الجولان المحتل علي طاولة المفاوضات، إذا وقعت المعجزة وشهدت تلك المفاوضات النور في أي يوم قريب، باعتبار استرداد الأراضي السورية المحتلة هو الملف الأهم في حزمة المصالح السورية؟ وفي الأساس، مَن يضمن أن هذه هي الأولوية في حسابات النظام، وأن سلامة السلطة بما تعنيه من مد أهلها ببضع سنوات أخري من النجاة، ليست هي الأولوية الأولي والثانية والثالثة و... القصوي؟ وفي عبارة أخري، هل فضل القيمة التي تطمع دمشق في الحصول عليه من خراب لبنان، ينبغي أن يكون وفيراً بما يكفي لإعادة شراء الجولان، أم بخساً لا يتجاوز نفقات إعادة شراء بيت السلطة؟
- آخر تحديث :
التعليقات