طلال سلمان


تتبدى قمة دول عدم الانحياز التي تلتئم اليوم في كوبا وكأنها تشييع مسبق لمناضل مجيد ومؤسس عنيد لحركة التغيير هو فيديل كاسترو، وتشييع متأخر لهذا التكتل الدولي الذي يفتقد الآن دوره ومبرّر وجوده، وإن كان لا أحد من المشاركين فيه يرغب في نعيه أو إعلان وفاته.

لقد دار الفلك بالدنيا، دولها وشعوبها، دورة كاملة، وبهتت وظيفة هذا التكتل الذي شكّل، في لحظة ميلاده، أملاً ومخرجاً من الإحساس بانعدام التأثير لقوى جديدة، شابة ومتوثبة إلى التغيير، كانت ترى في نفسها الجدارة، بخطابها المختلف عن النمطين السائدين، كما كانت مساحة التباعد بين الغرب الأميركي الإمبريالي والشرق السوفياتي الشيوعي توفر مناخاً من التساهل مع هذا التجمع الذي يضم هويات متعددة تحتمي بعديدها أكثر مما بقوتها، وبكونها سوق الاستهلاك أكثر مما هي المنتج والمصنّع.

لم تكن الولايات المتحدة الأميركية قد غدت الإمبراطورية الكونية المفردة، ولم يكن الاتحاد السوفياتي قد انفرط عقده وانهار كجبل من ثلج متسبباً في سقوط الحلم الإنساني بالعدالة والكرامة مع الخبز والحق بالتقدم بعد تحرير الإرادة والعقل ووسائل الإنتاج.

كانت لحظة تلاقٍ بين طموحات رجال كبار في دول عظيمة بتاريخها، بائسة في حاضرها، مفقرة لكي تستتبع، لا تستطيع أي منها منفردة ولو كانت الهند أن تقرّر لنفسها ما تريد، ولا تستطيع التلاقي إلا إذا تحدت واقعها... وكان الاتحاد السوفياتي مستعداً للدعم، ولم تكن الولايات المتحدة الأميركية من الجنون بحيث تفترض أنها بصدد مواجهة عدو جديد، حتى لو كانت شعارات هذا التكتل أقرب إلى الاشتراكية، بمعناها العمومي المبهم، في حين أن سياسات دوله المؤسّسة أقرب إلى الغرب حتى لو كان تسليحها سوفياتياً، وبالدين.

لم يتبق من أولئك الكبار إلا كاسترو، الذي دخل بانحيازه المعلن فقبلته الدول المنحازة ضمناً إلى خصمه الأميركي اللدود، ربما كاستثمار، ولعله كان يحتاجها كقوة حماية معنوية تكسر عنه عزلة المحاصر وتوفر لشعبه متعة الإحساس بأن له أصدقاء كثيرين مستعدين للتضامن معه ومنع lt;الأميركي البشعgt; من أن يجتاحه بقوته الهائلة، كما حاول مرة، بشيء من التردد والتستر، جعله يغرق في خليج الخنازير.

الفارس الأخير على فراش الموت، والتكتل الذي جمع فأوعى قد صار أشبه بناد لمنتحلي الصفة الذين لا يخفون انحيازهم بل لعلهم يفاخرون به حتى لو تجاهلهم lt;السيدgt;...

إلا قلة قليلة من القادة الذين يحاولون تمثّل تجربة هذا الفارس الذي قارع الطاغوت الأميركي من قلب الشيوعية من دون أن يصير سوفياتياً، وظل رمزاً للوطنية والتغيير بالثورة في أميركا اللاتينية التي تجيء إليه متأخرة كثيراً عن طليعتها الذي ظل يقاتل حتى الطلقة الأخيرة فصار رمزاً لجيل جديد يغني للثورة بينما كل مفرداته، من اللغة إلى الثياب إلى المأكل إلى هواياته أميركية: أرنستو غيفارا!
عادت الثورة إلى مهجع الأحلام، ومعظم منتحلي صفة lt;غير المنحازينgt; صادقون في أمر واحد: إنهم غير منحازين إلى شعوبهم التي باتت، بعد أربعين سنة من لحظة تلاقي قادتها في نادي الطامحين إلى الاستقلال، رهائن الهيمنة الأميركية المطلقة بغير أمل وربما بغير سعي إلى التحرّر.

ترى هل سيتذكّر هؤلاء الذين سيتخاطبون، غالباً، باللغة الإنكليزية أسماء جواهر لال نهرو، وجمال عبد الناصر، وجوزيب بروزتيتو، وشو إن لاي، وأحمد سوكارنو، ونكروما، وموديبوكيتا، وأحمد بن بله (أو هواري بومدين)، أم أن ورثتهم سينكرونهم، وربما انسحبوا من التكتل الذي اصطنعه أولئك الآباء المؤسّسون ثم رحلوا فإذا كل ما بعدهم مما بنوه أو أرادوا أو حاولوا أو طمحوا إلى بنائه قد انهار مع لحظة مواراتهم الثرى؟

.. مع ملاحظة أن المؤسّسين الراحلين كانوا أعظم شرعية بما لا يقاس من lt;ورثتهمgt; بالاحتياج أو بقوة الفرض، الذين لا يمثلون في بلادهم ما يقلق lt;السيد الأميركيgt; ولا هم يضيفون إلى الطامحين الجدد إلى التغيير في دول أميركا اللاتينية ما يعزز حركتهم، بل لعلهم أشد خصومة لها من الإمبريالية الأميركية لأنها تفضحهم... مع أن زمن الخوف من افتضاح أمورهم قد ولى، وصار الخوف إرث شعوبهم، يتناقلونه جيلاً بعد جيل!