5 يناير 2007


أبو خلدون


لو أجرينا استطلاعا بين طلاب السنة الأولى في الجامعة عن الأسباب التي دفعت كل واحد منهم إلى اختيار الكلية التي يدرس فيها، لخرجنا بنتيجة غريبة هي: إن قلة قليلة منهم اختارت تخصصها بنفسها، وأن كثيرين منهم دخلوا الكلية، وبدأوا الدراسة، وهم لا يعرفون طبيعة الموضوعات التي سيدرسونها، ولا الإمكانيات التي يمكن أن تتوفر لهم بعد التخرج، والمحصلة النهائية هي أن تتحول الشهادات الجامعية إلى ديكورات تعلق على الجدران.

وهذه النقطة لفت نظري إليها الدكتور مصطفى محمود قبل عقود، عندما زرته في مكتبه في دار ldquo;روز اليوسفrdquo; في القاهرة، وكان يعاني من ألم في الظهر بسبب ldquo;الديسكrdquo;، وكنت أعتقد أن هذا الكاتب الكبير دكتور في الفلسفة، أو في الأدب، فإذا بي أفاجأ بأنه طبيب عظام. وعندما أعربت له عن دهشتي، قال لي: إن الناجحين الذين يعملون في مجال تخصصهم في الدول العربية قليلون، لأنهم لم يختاروا مجال هذا التخصص منذ البداية، ومثال على ذلك: يوسف إدريس، الكاتب الروائي المبدع، الذي حصل على جائرة الدولة في الرواية، تخرج في كلية الطب لأن والده كان يريده طبيبا، وبعد التخرج، نسي الطب، وعمل في الأدب، وصالح جودت (والحديث لا يزال للدكتور مصطفى محمود) تخرج في كلية الزراعة، وكذلك عادل إمام، وصلاح السعدني، وعشرات الأدباء والفنانين. ويوسف السباعي الذي سكن خيال الشباب في الخمسينات خريج الكلية الحربية، وقد اختارها لأن بذلة الضابط كانت تروق له، وكذلك أحمد مظهر، والاثنان كانوا أعضاء في حركة الضباط الأحرار، ولكن الأول وجد نفسه في الأدب، والثاني في السينما، وعلي أمين ومصطفى أمين من أساتذة الصحافة في مصر، أحدهما تخرج في كلية الهندسة، ولم يدرس الصحافة في الجامعة.

نعود إلى استفتائنا: لو سألنا أي طالب جامعي عن السبب الذي دفعه إلى اختيار الكلية التي التحق بها، لكان الرد الأكثر شيوعا هو: ldquo;إن معدلي في الثانوية العامة لا يسمح لي باختيار كلية أخرىrdquo;، وربما يقول أحدهم: ldquo;والدي مهندس (أو طبيب) وهو يريدني أن أصبح مثلهrdquo;، وقد نسمع عشرات الأجوبة، كلها تدور في هذا السياق، وليس بينها جواب واحد يقول: ldquo;لقد اخترت هذه الكلية لأن المادة التي تدرس فيها هي الشيء الذي أحبه وأحسنهrdquo;.

وقد نجد بين الطلاب من استهواه الجانب الرومانسي من دراسته، كالروب والسماعة اللذين يستعملهما الطبيب، أو الأدوات التي يحملها المهندس، أو البذلة التي يرتديها الضابط، أو الطائرة الموضوعة تحت تصرف الطيار يسافر بها يوميا من بلد إلى بلد، ويشبع رغبته في رؤية العالم والناس، ولا يدرك هؤلاء أن الرومانسية هذه الأيام اختلطت بنقيضها، كما اختلط العلم بالفانتازيا، فالمومياء الفرعونية التي يجري اكتشافها تُعرض هذه الأيام على عالم الآثار كما تعرض على عالم هندسة الجينات بنفس الأهمية، لأن كلا منهما له زاوية في المومياء تهمه. والطالب العربي يدخل الجامعة وهو يفتقر تماما إلى الإرشاد التربوي، ولا يحمل إلا أفكارا مجردة عن حياته في الجامعة، والمواد التي سيدرسها، والفرص المتاحة له في المستقبل، ويفهم أن كلية الطب تجعله طبيبا، وكلية الهندسة تؤهله لكي يصبح مهندسا، وكلية الفيزياء تخرجه مدرسا، وكذلك كليات الآداب، ومن كلية التجارة يتخرج وهو يحمل شهادة تؤهله للعمل كمحاسب، والطبيب أفضل من المدرس أو المحاسب وأكثر دخلا من الناحية المادية، ولذلك يتمنى الجميع دخول كلية الطب. أما جهات القبول في الجامعات، فإن لها حسابات خاصة بها، وهي تتعامل بالأرقام، لا بالميول، ولا بالرومانسية، وإذا كان معدلك في الثانوية العامة يزيد على 95% مثلا، فإن بإمكانك الالتحاق بكلية الطب، وإذا كان 65% فإن مكانك هو كلية الآداب، ودون 60% كلية الزراعة، ولعل هذا هو السبب الذي جعل واحدا مثل صالح جودت يتخرج في كلية الزراعة ليعمل شاعرا، وآخر مثل الدكتور مصطفى محمود يدرس الطب ليعمل صحافيا، والعشرات يتخرجون في كلية الهندسة ليعملوا ldquo;مهندسي شوارع أو في مناكفة آبائهم في البيوتrdquo;.