راغدة درغام
سواء نجحت الاستراتيجية الأميركية الجديدة للعراق أو فشلت، فإن جيرة العراق العربية والايرانية والتركية هي التي عليها أن تعيش بجانب عراق مقسّم، أو عراق مشرذم، أو عراق الارهاب، أو عراق فقد صوابه وتحول الى جهنم الحروب الطائفية والعرقية في انتحار ونحر مشين.
وسواء تطوّرت الافكار laquo;الجديدةraquo; للإدارة الأميركية نحو النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي الى خطة ملموسة وجدية أو استمرت على نمط التخدير والإلهاء، فإن الفلسطينيين والاسرائيليين هم الذين يدفعون كلفة رفض كل منهم الإقرار بثمن مقتضيات السلام. هم الذين يتقاسمون كابوس اللاطمأنينة ويعيش كل منهم في بطن الآخر من دون خيار الاستئصال. صحيح أن المسافة الجغرافية بين الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط لن تعفيها من المحاسبة على استثمارات سيئة لها ومسيئة للآخرين. صحيح أن حرب العراق صفعت السمعة الأميركية وقوّضت مكانة الدولة العظمى الوحيدة في العالم.
صحيح أن تحايل، ولربما احتيال، الادارات الأميركية المتتالية على مقومات ومتطلبات ووعود حل الدولتين - فلسطين واسرائيل - قد أسفر عن تآكل حسن النية وينسف الثقة بالغايات الأميركية. انما في نهاية المطاف، هذه الحروب والمعارك محلية مهما أنفقت عليها واشنطن من بلايين الدولارات، ومهما ارتكبت فيها من أخطاء، ومهما كانت صادقة في تبريراتها أو مراوغة في تفسيراتها. فالمعركة بين الاعتدال والتطرف معركة مصيرية من أجل أجيال المنطقة، عرب وعجم ويهود وأكراد وغيرهم. وفشل الاسرائيليين والفلسطينيين في الجرأة على إقامة السلام مكان الاحتلال والانتحار انما يذبح أحلامهم هم، إذا كانت حقاً أحلام التعايش والأمن الحقيقي وليس ادعاءات اليقظة الكاذبة. ما تتطلبه المرحلة الراهنة هو القليل من الرصانة لأن الآتي مرعب إذا استمر الرهان على فشل إدارة جورج دبليو بوش في العراق وعلى إفشال السعي نحو نقلة نوعية من أجل معالجة جدية للقضية الفلسطينية.
إحدى مشاكل اسرائيل ان لها مدافعين عنها في واشنطن يعتقدون أن المصلحة الاسرائيلية تقتضي حماية اسرائيل من السلام. هؤلاء هم من يستنفر ضد أية مبادرة تتطلب من اسرائيل إنهاء الاحتلال، وهم من يعطل أية محاولة للتحدث عن الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية. انهم من يكرس نفسه لمحاربة أي رئيس أميركي يقترح تقسيم القدس. وهم من ساهم في إسقاط ايهود باراك، رئيس الحكومة الاسرائيلية السابق، لأنه عبر الحدود الحمراء، في رأيهم، وتحدث عن قدس قابلة للتقسيم فيما موقفهم الراسخ هو أن القدس هي العاصمة الأبدية الموحدة للدولة اليهودية.
هؤلاء هم من بدأ يجنّد اتباع المدرسة ذاتها لإفشال أية محاولة قد يقوم بها جورج دبليو بوش وادارته في اطار البحث عن سلام فلسطيني - اسرائيلي. فهم لا يريدون تكرار ما حدث عندما استيقظ الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون الى هذه المسألة، بعد سبات 7 سنوات أوكل خلالها كامل عملية السلام الى سفير وفريقه، دنيس روس. تلك اليقظة أسفرت عن لقاءات كامب ديفيد. وما حدث في كامب ديفيد هو أن باراك، وللمرة الأولى في تاريخ القيادات الاسرائيلية، وافق على طرح القدس على الطاولة، فكان لا بد من ايجاد السلم له ليتسلق هبوطاً. وعليه، جاءت انتفاضة ارييل شارون على باراك عندما زحف على القدس في أيلول (سبتمبر) عام 2000. جاءت مقدمة وحافزاً واستفزازاً للانتفاضة الفلسطينية الثانية.
أصحاب هذه العقيدة عازمون على ألا يسمحوا لجورج دبليو بوش ان يبحث عن سبل انقاذ سيرته التاريخية في فلسطين واسرائيل. من وجهة نظرهم، لقد استنفد الرئيس الأميركي رقم 43 فائدته لهم ولاسرائيل بعدما قدم كل ما لديه في السنوات الست الماضية. والآن، ان المهمة هي مهمة منعه من مغامرة سلمية في السنتين الأخيرتين.
مهمة الرأي العام الأميركي والاسرائيلي والعربي يجب أن تكون منع هؤلاء من النجاح، والا فإن الآتي أعظم ولن يكون مكلفاً فقط للفلسطينيين والعرب وانما سيدفع الأميركيون ثمناً باهظاً نيابة عن، وسوياً مع، الاسرائيليين.
اختزال كامل القضية الفلسطينية الى laquo;ارهابraquo; أو الى رفض حكومة laquo;حماسraquo; الاعتراف باسرائيل انما هو استراتيجية تبناها الاعتذاريون عن اسرائيل تحت أي ظرف كان. همّهم الأول كان ولا يزال عدم زج اسرائيل في زاوية المفاوضات الجدية للتوصل الى حل قيام دولة فلسطين القابلة للحياة الى جانب دولة اسرائيل. يرفضون حدود 1967، حدود الهزيمة والانتصار، لحل الدولتين في تعايش سلمي. وهم يعارضون الآن، كما فعلوا مراراً وتكراراً في الماضي، اجراء المفاوضات الجدية على الوضع النهائي للدولة الفلسطينية ووضع البرامج الزمنية الجدية بسبب أو آخر للتهرب من السلام واستحقاقاته ويعملون دوماً على قطع الطريق أمام أية ادارة اميركية تحلم بصنع السلام.
كوندوليزا رايس توجهت الى المنطقة وسط خلاف جذري داخل صفوف الادارة الأميركية يتجاذبه توجهان أساسيان احدهما مدعوم من الأوساط الفكرية والمؤسسات المؤثرة التي تصر على استثناء اسرائيل من المحاسبة والضغوط وعلى رفض أي ترابط أو ربط بين العراق والنزاع العربي - الاسرائيلي. هذا التوجه يريد أن يتظاهر بأن لا علاقة ولا مصلحة لاسرائيل في الحرب الأميركية في العراق التي حذفت العراق كلياً والى الأبد من المعادلة الاستراتيجية العربية - الاسرائيلية. واصحاب هذه العقيدة يقولون الآن انهم لا يريدون ما من شأنه أن يبين، أو يعطي الانطباع، بأن الولايات المتحدة تتنازل في موضوع فلسطين لأنها خسرت في العراق.
التوجه الآخر يرى ان هناك علاقة مباشرة الآن بين ملفات العراق وفلسطين ولبنان وأن المعركة مع ايران وحلفائها تتطلب انتشال القضية الفلسطينية من خطط تهييج الرأي العام والتحريض على التطرف وعلى استهداف الولايات المتحدة بصفتها الأم التي تقدم الى طفلها المدلل الدعم الأعمى. المنتمون الى هذه المدرسة يريدون اقناع الرئيس جورج دبليو بوش ان أمامه فرصته الأخيرة لسيرة تاريخية غير سيرة الفشل في العراق اذا وظف السنتين المقبلتين في تحقيق laquo;رؤيةraquo; بدولتين، وهم يشجعونه على رفض الخضوع أمام ضغوط وخطط منعه من الإقدام على الدفع الجدي باسرائيل نحو سلام مع الفلسطينيين.
جورج دبليو بوش لن يريد أن تتحول رئاسته في السنتين الأخيرتين من عهده الى بطة عرجاء مطأطأة الرأس خجلاً من فشل ذريع في العراق. شخصيته العنيدة قد تؤدي به الى رفض الاذعان لضغوط ابعاده عن الملف الفلسطيني - الاسرائيلي. انما إذا قرر ان يختار توجه الانخراط في هذه المسألة، يجب على الرئيس الأميركي أن يكون، اولاً، يقظاً الى نفوذ وقدرات وعزم التيار الذي يقود حملة تعطيل وضع النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي في الصدارة. وعليه، ثانياً، ان يدرك بكل وضوح ان أية مبادرة اميركية يقوم بها تكتفي بانصاف الخطوات وتكون عبارة عن جرعة أخرى من كوب التخدير، ستكون لها نتائج عكسية مؤذية حقاً للمنطقة وللمصالح الاميركية في العالم العربي والعالم الاسلامي أجمع.
لذلك، إذا قرر جورج دبليو بوش الانخراط، عليه ان يتوقع حرباً مع فاعلين داخل ادارته وحزبه ومع أفراد اعتقد انه معهم في خندق واحد. فهؤلاء لن يسمحوا له، أو لأي كان، ان يمارس على اسرائيل الضغوط الضرورية لتحقيق حل الدولتين والتعايش بسلام. وقد يفاجأ الرئيس الاميركي الذي أعطى اسرائيل اكثر من أي رئيس سابق كيف ستنقلب الأمور عليه إذا ظن ان بوسعه ومن حقه الضغط على اسرائيل حتى من أجل المصلحة الأميركية الوطنية العليا. فإذا اتخذ هذا القرار، يجب على الرأي العام الاميركي ان يدعمه في هذا التوجه حتى وان كان غاضباً منه بسبب حرب العراق. ذلك لأن المصلحة الاميركية العليا حقاً تتطلب في هذا المنعطف الجرأة على معالجة جذرية للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي كي لا يدفع الاميركيون تكراراً الثمن الغالي للشراكة الاميركية مع اسرائيل في إخضاع ملايين الفلسطينيين لاهانة الاحتلال وللتشريد اللذين يشكلان انتهاكاً لمبادئ وقيم حقوق الانسان.
الأمر الآخر الذي سيكون على الرئيس الاميركي ان يقوم به اذا اختار حقاً الانخراط في العمل نحو سلام فلسطيني - اسرائيلي، هو ان يعطي وزيرة خارجيته صلاحية السير بخطوات واثقة وجريئة وأن يدعمها شخصياً بمواقف علنية كي لا تبدو كأنها تغامر خارج سرب القيادة الحقيقية في واشنطن. عليه ان يكون هو مقتنعاً وجاهزاً لأن يقول ما قاله في مطلع اهتمامه بهذا الملف وهو ان المعالم الأساسية للحل هي في قيام دولة فلسطين محل الاحتلال الاسرائيلي، وان حل النزاع العربي - الاسرائيلي برمته يقتضي انهاء الاحتلال.
اذا كان في ذهن كوندوليزا رايس الآن مجرد استطلاع مدى الاختلاف في المواقف الرئيسية الأساسية لاسرائيل وللسلطة الفلسطينية بهدف استيعاب الجو الاقليمي، الأفضل لها ألا تتورط في هذا الفشل. فالجو الاقليمي ليس أبداً في وارد تفهم المعادلات الاميركية الانتخابية أو ظروف العلاقة الاميركية - الاسرائيلية العضوية. الجو الاقليمي جو توتر وخوف على مصير ولا جلد له لتمضية اسابيع في توقع زيارات لرايس أو لقاءات لها مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت. الجو الاقليمي سئم تحليل تعابير لقراءة ما تعنيه الادارة الاميركية عندما تتحدث وزيرة الخارجية عن أفق سياسي أو عن تعجيل وتسريع خريطة الطريق الى قيام دولة فلسطينية.
فالوضع الفلسطيني قد وصل الى ذلك القدر من الانقسام والعداء الداخلي لدرجة تتطلب الكف عن التوقف في محطة المتطلبات من حكومة laquo;حماسraquo;. تتطلب القفز على هذه الحكومة الى المفاوضات التي هي شرعياً من صلاحية رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية. كل كلام عن نبذ ارهاب أو الاعتراف باسرائيل كشرط مسبق أو الالتزام بتنفيذ اتفاقيات سابقة لا فائدة منه الآن. فكما تراجعت laquo;حماسraquo; عن الالتزامات كذلك فعلت الحكومة الاسرائيلية. الاثنان متكافئان في هذا مهما حاول الاعتذاريون عن اسرائيل تقنين اللوم حصراً في laquo;حماسraquo; ومهما حاول الاعتذاريون عن حركة laquo;حماسraquo; ان يبرروا فشلها الذريع في قيادة الشعب الفلسطيني كحكومة منتخبة الى حاضر ومستقبل أفضل. فكما الوضع الفلسطيني الداخلي في سوء كذلك الوضع الاسرائيلي الداخلي قد بلغ ذلك القدر من السوء لدرجة ربما يستعد فيها الاسرائيليون والفلسطينيون لدعم المغامرة بالسلام.
معالجة النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي لن تحل كامل مشاكل المنطقة انما القضية الفلسطينية تبقى أساسية وضرورية في المعارك الرئيسية بين التطرف والاعتدال.
البعض في واشنطن قرر ان بين أولوياته الأساسية التركيز القاطع الآن على موضوع العراق بابعاد تام ومتعمد لأي بحث أو انخراط أو احياء لجهود البحث عن حل للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي. هؤلاء جندوا قدراتهم من أجل استراق جورج دبليو بوش مجدداً لمنعه، بالحسنى عن هذه المغامرة الا اذا فرضت الظروف استبدال الحسنى بالضغط. لذلك على الرأي العام الأميركي ان يستيقظ الى أهمية دوره في هذا المنعطف وأن يلعب هذا الدور رافضاً التخويف ومنع النقاش. على الدول العربية إعادة طرح المبادرة العربية للتعايش السلمي مع اسرائيل وتسويقها لدى الرأي العام الأميركي والاسرائيلي معاً. وعلى الرأي العام العربي ان يفكر بالاستفادة من غياب نشوة الانتصار لدى الاميركيين بسبب ورطة العراق وان يشجع الرئيس الأميركي على العمل الجدي لحل القضية الفلسطينية وانتشال هذا الشعب من بؤس الاحتلال. فالشماتة بالفشل لا تخلّف سوى المآسي لأهل المنطقة العربية.
التعليقات