أسامة أنور عكاشة

تصطخب الفوضي كلما اقتربنا من المشهد السياسي الماثل علي الساحة المصرية... حيث يعلو الضجيج وتسود laquo;الهرجلةraquo;، وتتقاطع الرؤي وتغم المرئيات وتتميع كل الحدود والفواصل وتصبح الثقة واليقين عملة نادرة بينما الشك هو العملة السائدة والمتداولة ويتحول المشهد كله إلي صورة سريالية لا يمكن إخضاع خطوطها أو تفاصيلها لأي منطق... مشهد يستدعي للذاكرة ساحات الموالد الشعبية حين تزدحم بشوادر الغناء والإنشاد وملاعب الحواة والباعة والنشالين وحيث يكتنف الغبار كل شيء ويصبح الخروج من الساحة معجزة حقيقية!

فمنذ عامين بدأ ذلك التيار الذي اصطلحنا علي تسميته بالحراك السياسي، إشارة إلي ظهور علامات إفاقة علي الوعي الشعبي وملاحظة دبيب يسري في الجسد الساكن فيتشقق معه قميص laquo;الجبسraquo; الذي أحاط به ردحًا من الزمن بلغ قرابة النصف قرن، ونبتت في شوارع القاهرة- علي حين غرة- حركة احتجاج تعلن التمرد علي حالة التيبس والتخشب الرمي التي يراد لها أن تستمر لتصبح قدر مصر الدائم ولعنتها الباقية.. فظهرت laquo;كفايةraquo;..

حاملة أهدافها في جنح معناها أن كفي ما تفعلونه بالبلد فكفوا وارفعوا الأيدي عن أعناق المصريين.. واستطاعت النبتة الوليدة أن تحرك الخامد.. ولأول مرة منذ ما يقرب من ثلاثة عقود laquo;بالتحديد منذ انتفاضة ١٩٧٧raquo;، يكسر المصريون رهبة الخروج إلي الشارع... ربما عشرات أو مئات.. ولكنها كانت إشارة شجعت آخرين فكثرت الجماعات والتجمعات بمختلف التسميات ولكنها جميعًا تتفق علي هدف واحد وإن تعددت أسماؤه.. فكان laquo;التغييرraquo; عند البعض وlaquo;الإصلاحraquo; لدي البعض وlaquo;التحول الديمقراطيraquo; لدي آخرين وفي ٢٠٠٥ علا النبض وارتفعت الحرارة..

وانتعشت الآمال في ذوبان سريع للثلوج.. سري تيار من الدفء في الحنايا ودفعت الأشواق المكبوتة والأحلام الأسيرة في وطن حر ديمقراطي الكثير إلي رسم السيناريوهات المتفائلة التي يتحقق من خلال أحدها التحول المأمول خاصة بعد أن بدت من رئيس الجمهورية تلك البادرة التي تشير- وقتها- إلي بدء الاستجابة لمطالب الجماهير فأعلن دعوته لتعديل المادة الشهيرة إياها لكي يكون اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب وليس بالاستفتاء..

وهتفنا جميعًا laquo;الحمد لله... أول الغيث قطرraquo; لكن القطر لم يتحول إلي مطر منهمر.. بل توقف متراجعًا بعد اختراع تلك التعديلات البهلوانية التي تسرق باليمين ما قدمه رئيس الجمهورية باليسار.. ورغم الإحباط الذي بلغ حد الصدمة والذي أكد أن الاستجابة الموهومة لم تكن إلا خطوة التفاف حلزونية اخترعتها قريحة محامو الشيطان من ترزية القوانين المشبوهة وتلبيس الباطل ثوب الحق وتقديم عروض السفسطة الدستورية،

رغم ذلك لم يتوقف الحراك واستمد من تجاوزات laquo;الأجهزةraquo; قوة شحن أكبر للمشاعر الغاضبة والتي تنتشر بطول مصر وعرضها، وكانت انتخابات الرئاسة وبعدها انتخابات المجلس النيابي فرصة لقياس توجه الريح الحقيقي وتمييز النوايا الحقيقية عن مزاعم التضليل والتدجيل... وأسفرت التجربة عن مهزلة انتخابات مجلس الشعب وما جري فيها مصحوبة بوعد سابق من رئيس الجمهورية بالتقدم مرة أخري بحزمة من التعديلات الدستورية لمواجهة العوار والتناقض والثقوب التي تملأ مواد وفقرات الدستور القائم...

وكانت الانتخابات والوعود الرئاسية هي الحد الفاصل بين شهور الحراك وتدفق الحرارة في شرايين الحياة السياسية للمصريين وبين الوصف بكل ما بدا من تسامح واتساع صدر نسبي لدي النظام خلال عامي ٢٠٠٤، ٢٠٠٥ وإطلاق يد laquo;الأمنraquo; ليحكم الشارع ولسان حاله يقول: laquo;انتهت شهور الحراك والفوضي والتظاهر.. وعلي الجميع أن يلزموا بيوتهم أو يسيروا جنب الحيط... وإلا...raquo;.

ظن العباقرة أن تشديد القبضة الأمنية وإحكام السيطرة علي منافذ الحركة وتضييق الخناق علي المعارضين وعلي laquo;المشاغبينraquo; وضربهم في عقر دورهم وlaquo;توضيبraquo; القضايا السياسية والجنائية لجميع النشطاء والمتجاوزين للخطوط الحمراء... وكان ذلك علي وهم أن البطش وlaquo;العين الحمراءraquo; قادران علي إنهاء الفوضي laquo;في نظرهم إن ما حدث خلال ربيع القاهرة في عامي الحراك ليس إلا نوعًا من الفوضي لابد من القضاء عليه وإنهائهraquo;...

لكن الظن والوهم أسفرا عن الفوضي الحقيقية.. الفوضي التي تضرب بأطنابها في كل المجالات وكل المؤسسات ونسير جميعًا في ظلها هائمين علي غير هدي وتتقاطع خطانا وتتضارب في سبل لا نملك لها خرائط ولا تهدينا بوصلة!.. فقد الكيان المصري جهازه العصبي المركزي فاختلت كل وظائفه... وتوزعت الجهود في أزقة وحوارٍ تشبه laquo;بيت جحاraquo;... متاهة يتلاطم فيها أبناء هذا البلد الموسوم بلعنة الفراعنة: ينفصل رأسه عن جسده...

نظام سياسي لا يعرف من يسوسهم ولا يراهم ولا يعبأ بهم ولا يهمه إلا أن يظل حاكمًا حتي ولو لم يحكم إلا وطنًا تسكنه الأشباح... وشعب يقترب تعداده من الثمانين مليونًا تتوزع قواه علي مفردات أزمة اقتصادية طاحنة تضاعف من الانهيارات المتوالية: في النسق القيمي والتماسك الاجتماعي.. والفرز الطبقي... وتتحطم الفواصل والأسيجة الحامية لتسود فوضي العرف والعادات والتقاليد وتتقافز الشرائح المتفتتة كأنها حبات laquo;الفيشارraquo;..

فلا ثبات.. ولا حركة منتظمة.. ولا قدرة علي قراءة المشاكل والحلول قراءة صحيحة... فتتداعي الأمراض الاجتماعية ماثلة في شيوع الجرائم بمختلف أشكالها وضياع laquo;الأمن الاجتماعيraquo;.. ووقوع الطبقات الدنيا- غير القادرة علي المقاومة- بين شقي رحي هائلة: جبروت الفساد العام وسطوة رأسمالية شاذة غير منظمة... وبين عملية دجل سياسي هدفه غسل أدمغة الملايين وإيهامهم بأن مصر تمضي قدمًا علي طريق الديمقراطية laquo;بشرط أن تكون نابعة من ظروفنا ومن تراثنا ولا نقلد فيها الديمقراطية الغربية والأمريكية علي الأخص!!!raquo;...

وتتم دائرة الفوضي بالترويج لأكبر حملة تضليل دستوري في تاريخ مصر- إن لم يكن في تاريخ العالم كله!... تفنن خبراء القانون الدستوري الملاكي في تدبير جملة تعديلات ثانوية علي الدستور تزيده عوارًا علي عواره الأصلي وتثبت إلي أي مدي يصل أفراد طغمة التبرير والتزوير في احتقارهم لذكاء مواطنيهم... وفي نفس الحلبة ينزل الإخوان المسلمون مباهين بما اقتنصوه من حصالة الحزب الوطني في الانتخابات الأخيرة..

مزاولين نفس طرائقهم القديمة في ازدواجية الإنكار والإقرار والتصدي والهروب والترهيب ضمنًا والترغيب علنًا.. محتمين بغطاء الوهابية الغازية التي تدفع بكل ثقلها واختراقها كل الدوائر الرئيسية في الدولة المصرية للتمكين لنفوذها باسم الدين.. ويتفق سعي الجميع في التمهيد laquo;لقعدنةraquo; مصر وlaquo;طلبنتهاraquo; مستغلين إغضاء الطرف من السادة الآباء في واشنطن دي. سي الذين يرون في الحراك السني الوهابي جزءًا من حملة الضغط علي طهران... ولا يلقون أي اعتبار لأي


حرائق طائفية يمكن أن تشتعل في المنطقة كلها.. بل لعلهم أسعد الناس بتحول إرهابي القاعدة والجماعات الجديدة التابعة إلي ضرب الشيعة في العراق- وربما قريبًا في إيران! وما يلي ذلك من رد التشكيلات الشيعية بدورها بالضرب في عمق بلاد السنة- ومنها مصر بالطبع! ولعلها هي الفوضي الخلاقة التي عنتها السيدة رايس...

الفوضي من الأطراف إلي المركز.. ومن العمق إلي الأطراف... يختلط الحابل بالنابل ولا يأبه المصريون وهم رازحون تحت ثقل الغلاء المتوحش.. والفساد المنتشر في كل مكان... وانهيار العملية التعليمية بتفريغ مبدأ المجانية من محتواه وخصخصة التعليم من الحضانة وحتي الجامعة.. ورجوع مجتمع النصف بالمائة بعد تحصينه وتسمينه بقوانين الاستثمار والخصخصة وبيع كل شيء حتي الجلد والسقط...

تحت هذه الضغوط الفادحة لا يأبه المصريون لما يقدم الحزب الوطني لمجلسي التمثيل النيابي- إذا كانا حقًا كذلك- ولا يهمهم ما يقرره المجلسان أو يرفضانه... ولن يبالوا بالتعديلات laquo;اسم الدلع للعب بالبيضة والحجر والضحك علي الدقون!raquo;... وسيتم الاستفتاء علي الأربعة وثلاثين مادة المعدلة وتغلق الدائرة كما أغلقت قبلها دوائر كثيرة... والشعب المصري يتفرج.. وتلك هي الطامة الكبري... وأتذكر عبارة لفولتير laquo;أو ربما تكون لمونتسكيوraquo; يقول فيها: الظلم لا يؤدي إلي الثورة... بل الإحساس بالظلم هو الذي يفعل!... والعبارة لا تحتاج إلي شرح فهي تفسر نفسها بمنطوقها، وبقي لنا في حديث الفوضي كلمات أخيرة... نعود بعدها إلي مواقعنا... فإلي المقال الثالث والأخير.