مشاري الذايدي


ملاحظة جديرة بالاهتمام: هناك نقلات أحجار وتغيير في المواقع والمواقف في أوساط كتاب وصحافيين، وتناولات إعلامية متسارعة الايقاع والنكهة للأزمة الكبرى التي تعصف بهذا الجزء الحزين من العالم: منطقة الشرق الأوسط.

هي تحولات ونقلات ربما تمليها طبيعة المعطيات المتغيرة على الأرض كل يوم، وأيضا تموج الأحداث مثل صهير البركان السائل، الأمر الذي أذاب صلابة المواقف وتماسك الرؤى التقليدية.

ففي غضون أيام، تحول السيد حسن نصر الله من مقاوم بطل في الوعي العربي الشعبي العام، إلى طرف سياسي لبناني داخلي، يماحك السنيورة وتخيف مليشياته laquo;إخواننا من أهل السنةraquo;، وفقا للتعبير المشبع بطائفتيه السنية، لم يستغرق التحول في الصورة إلا فترة يسيرة، ومن شهور معدودة، من النصر الإلهي في الحرب الأخيرة، إلى مجرد مهتاجين محاصرة السراي الحكومي، ومطالبة laquo;السيدraquo; برئيس وزراء سني laquo;شريفraquo;.

ضع هذا كله، في الأمام، ثم انظر خلفه إلى المشهد الأكبر، مشهد الهيجان الإيراني، والمناوشة الأمريكية لإيران، وبروفات الحرب على طريقة وضع القدم في المسبح قبل الانغماس فيه من اجل التعرف على حرارة الماء، من هذه البروفات الصغيرة خطف العناصر الإيرانية في اربيل على يد القوات الأمريكية، ومن ثم الرد الايراني بخطف وإعدام عسكريين أمريكيين في كربلاء، والحديث الامريكي عن تدفق المتفجرات الايرانية على العراق، وهي المتفجرات التي يقول الامريكان انها سبب تدمير دبابتهم الصلبة... وغير ذلك.

وضع في خلفية المشهد أيضا، تواتر الأنباء laquo;السنيةraquo; لشارعهم العربي السني المتحفز، عن وجود حالة تطهير طائفي ضدهم على يد الميلشيات الشيعية في العراق، والمدعومة من إيران، ثم توج ذلك بإعدام صدام حسين بتلك الطريقة التي هيجت مشاعر الشارع (المهتاج دوما!).

ضع هذا كله، على أرضية ثقافية مشدودة بحبال الطائفية، واهنة الصلة بمفهوم المواطنة المتجاوزة للمعيار الطائفي أو العرقي، وهي أرضية يتحرك عليها معظم الشارع العربي، واقل القليل يمكن أن يبخر الطلاء الشاحب من معزوفة الانتماء الوطني الشامل والوحدة الوطنية وتعانق الهلال والصليب او تصافح الجامع والحوزة.

هذا هو الحال إذن، ونحن نصف حالة الشعور والثقافة السائدة، مع رفضنا وكراهيتنا لهذا النوع من الشعور الطائفي، فإننا نضع التحولات في مواقف وآراء شريحة خاصة من الكتاب، وهم جزء من صانعي الرأي العام، نضعها في سياقها الطبيعي.

مثلا، نعرف أن حجر الزاوية في خطاب الإخوان المسلمين وكل التيارت الإسلامية التي تدور في المدار الاخواني، هو آيديولوجية المحافظة وحماية الهوية، ومقاومة الاستلاب الثقافي، وانجاز المشروع الإسلامي الشامل، أي الاستحواذ على الدولة، بوصفها حاملة للمشروع السياسي، والاستيلاء على المجتمع بوصفه محل تحقيق المجتمع المسلم.

ومن هنا، فإن النزعة الحركية التنظيمية، ذات الهدف السياسي، الانقلابي (أي على الواقع كله) التي ميزت الإخوان منذ الولادة عن التيار الإصلاحي الذي كان خير ممثل له الإمام محمد عبده، أو التيار التقليدي الذي مثله شيوخ الأزهر الكبار. هذه النزعة كانت تضع الاخوان في حالة اغتراب نظري مع طرح الإصلاحيين (عبده وخير الدين التونسي.. وغيرهما) لأن الإصلاحيين الأوائل كانوا ينطلقون في رؤيتهم لمشكلة المسلمين من أن المسلمين قصروا في العلم والتحديث وان عليهم إصلاح خطابهم الديني والأخذ بأسباب التقدم، والإفادة من الغرب الذي إنما فاز علينا لهذه الأسباب، أي أن رؤيتهم انفتاحية وليست انكفائية، بينما كان طرح الإخوان، ومنذ البدايات، مشغولا بكيفية مناجزة الغرب ومحاربته، والحفاظ على الهوية التي يتهددها الغرب من الخارج والتغريبيون من أبناء المسلمين. ناهيك عن اغتراب الخطاب الاخواني عن الرؤية الفقهية الأزهرية العريقة، والتي لم يكن هناك من تناغم بينها وبين طرح الإخوان المشبع ببخار السياسة، ويكفي أن تتذكر طروحات سيد قطب، العاطفية عن جاهلية القرن العشرين والطليعة المؤمنة وحاكمية الله، ثم تقارنها بطروحات فقيه محترف مثل الشيخ محمد أبو زهرة، لترى الفرق بين من يرى الصورة من الخارج، وينبهر بها انبهارا شاعريا، مثلما حصل مع سيد قطب ورؤيته الشاعرية لمفهوم الشريعة، وبين رؤية أبي زهرة، المحترفة، واللا مشغولة بهم سياسي، لتفاصيل ومعنى هذه الشريعة وآلياتها، وربما لذلك لم يكن الشيخ أبو زهرة اخوانيا!

هذا الاغتراب، العميق، جعل الإخوان يبحثون منذ البدايات عن كيفية توسيع هذه الرؤية وخلق المناخ الملائم لحياتها، وبالفعل بذلوا جهودا حركية مذهلة، أسفرت عن توسيع قاعدة الإخوان، بالاستفادة طبعا من الأحداث والأزمات التي عصفت بالعرب منذ تفكك الدولة العثمانية إلى هذه اللحظة. لكن هذا لم يكن كافيا، لوحده، وربما بسبب ذلك مد الإخوان اذرعتهم، وقلبوا بصرهم في الشرق والغرب، بحثا عمن يشاطرهم الرؤية أو يتقارب معهم في الروح، وفي ظني أن تأييد الإخوان ثورة الخميني في إيران والتغزل بها من قبلُ في البدايات، كان في جانب منه بسبب تشابه laquo;الروحraquo; بين طرح الخميني السياسي وطرح الإخوان. ففي قراءة من القراءات، لا نجد فرقا كبيرا بين قول: الإسلام دين ودولة، وبين مقولة ولاية الفقيه، وlaquo;الحكومة الإسلاميةraquo; لدى الخميني، فالطرحان يهمهما هدم الخطاب الإسلامي السابق، وتثوير الجانب السياسي في الإسلام، والاستفادة منه من اجل الاستيلاء على الدولة والمجتمع، لأن الدولة والمجتمع انحرفا عن الصراط المستقيم.

هذه لمحة سريعة عن هذا laquo;الرحم المشتركraquo; بين الاخوين الكبيرين في اللحظة الإسلامية الحالية، الإخوان وفكرة الحاكمية، وشيعة الخط الخميني وفكرة الثورة الاسلامية وولاية الفقيه، مع الاعتبار طبعا بمميزات وعلامات ونكهة كل نسخة على حدة، شيعية كانت أم سنية.

وظلت هذه العلاقة الودية، طويلا. وها هو أشهر كاتب اسلامي مصري، تميز بتثمينه العالي لتجربة الثورة الإسلامية الإيرانية، يحدثنا في مقال له نشر أخيرا عن انه اعتاد زيارة طهران laquo;مهنياraquo; على حد وصفه قائلا: laquo;اعتدت أن اتوجه إلى طهران بصفتي المهنية، وباعتباري باحثاً مسلما يحاول أن يتابع تجربة مثيرة رفعت الراية الاسلامية بعد طول احتجابraquo;.

لكنه شعر هذه المرة بخيبة امل بسبب انه زارها بوصفه سنيا، او شعر بهويته السنية لأول مرة، لكنه عاد وبشرنا في نفس المقال أن laquo;اهل الحل والعقدraquo; في إيران الثورة الإسلامية قد اخبروه على لسان قائد إيران السيد علي خامئني باستنكارهم لعمليات القتل، ولكن ضعف الجهاز الاعلامي في ايران لم ينقل هذه الاصوات إلى الخارجraquo;.

هذا الكاتب وجه في وقت سابق، خلال غليان الشارع العربي ـ طائفيا والى حد ما قوميا ـ نقده ضد ايران والطبقة الشيعية الحاكمة في ايران ودعا الى laquo;تحري حقائق التطهير المذهبي في العراقraquo; وأنحى باللائمة على المليشيات الشيعية، لكنه وبعد بضع مقالات نقدية ضد الحكومة العراقية المتهمة من قبل الشارع العربي laquo;الهائجraquo; بالتبعية لإيران، عاد واخبرنا بزيارته لطهران، واصفا إيران بأنها دولة ممانعة وصدّ للمشروع الأمريكي.

وقل مثل ذلك أيضا عن الرسالة التي وجهتها جبهة العمل الإسلامي في الأردن، وهي ذراع الإخوان السياسية هناك بعد تنامي مشاعر الغضب على إيران والحكومة العراقية في الشارع الأردني (وهذا شارع قصته قصة!) الرسالة تشير إلى موقف الجماعة الثابت من laquo;المشروع الصهيوني الأمريكيraquo; وتحاكم سياسة إيران على هذا الأساس، معتبرة أنّ مواقف إيران غير مقبولة في العراق وأفغانستان بينما هي مقبولة في امتلاك قوة نووية (ضد إسرائيل!) ودعم القوى المجاهدة في فلسطين. حسب توصيف الكاتب الاردني محمد ابو رمان.

ومثل هذا الموقف مقالة ساجد العبدلي، الناشط الإسلامي الكويتي، وأحد قيادات حزب الامة الإسلامي، والتي نشرها أخيرا في laquo;الرأي العامraquo; الكويتية، وقال فيها: laquo;ليس من باب الصدفة المحضة أن تتقاطر التحذيرات من laquo;خطر الشيعةraquo;، في الوقت نفسه الذي تحاصر فيه الإدارة الأمريكية إيرانraquo;.

هذه المواقف كلها، وإن تحدثت في البدايات عن الغضب على الحكومة العراقية التابعة للاحتلال الامريكي، ومن هذا الموقع اخرجت غضبها على اعدام صدام حسين البعثي، وان كانت ايضا تعاطفت مع هيئة علماء المسلمين، وكان لابد لها من أن تبدي موقفا من حرب السنة والشيعة، إلا أنها لم تستطع أن تمضي في الشوط إلى آخره، لا بسبب موقف تقدمي وتنويري من الطائفية، ففي العمق الخطاب الإسلامي السياسي لديه مشكلات حقيقية في مفهوم المواطنة وأهل الذمة والحاكمية.. الخ ولم ينجز قراءة نقدية حقيقية لهذه المفاهيم المعيقة، بل كان سبب عدم انجرار الخطاب الحركي السني الإسلامي، هو أن ذلك يقتضي بتر الرابطة الحركية مع إيران الثورة، وتطويق ومحاصرة رقعة الاسلام الحركي بمفهومه الواسع، خصوصا ان الشعور السائد لدى مفكري الإسلاميين هو أنهم في حالة اشتباك او محاصرة مع الحكومات وحالة فرح صامت من قبل أمريكا بذلك، وبالتالي فإنعاش دولة كبرى مثل إيران، يقودها راديكاليون من طينة نجاد، يوفر لغة مشتركة وعنصر قوة ضروريا، وهو مفيد في لعبة تحريك أوراق القوة..

خلاصة ذلك كله، نعم الطرح الطائفي السائد الآن من الجميع، هو طرح قبيح، ويؤذن بانتكاسات أخرى، ويؤجل مشروع التحديث إلى اجل غير مسمى، ولكن هناك فرق بين أن تنطق من رفضك لفكرة الطائفية من موقع فكري وثقافي عميق، ولا سياسي، وبين ان تبرر رفضك للطرح الطائفي بسبب ان ايران laquo;دولة ممانعةraquo; كما قال كاتبنا المصري الاسلامي الشهير، او انها ضد laquo;المشروع الصهيوني ـ الامريكيraquo; كما قال الاخوان الاردنيون، او لأنها تتعرض الآن laquo;لمحاصرة من امريكاraquo; كما قال الاسلامي الكويتي ساجد العبدلي..

نرفض الطائفية، لأنها طرح متخلف ولا إنساني، وكفى، وليس لأن ايران نجاد تعجبنا مواقفها او لا.. تلك هي المسألة.

[email protected]