منى حلمي

استيقظت من النوم صباح أمس، منشرحة القلب، متحمسة لاستقبال كل الأشياء الجميلة في الحياة، ومستعدة لاستضافة بداية مارس ونسائمه المعتدلة بين الدفء والبرد، تمهيداً لشدو الربيع، وتفتح الزهور.

وهذا شيء استثنائي، لأن الاستيقاظ في هذا laquo;الوطنraquo; الملغم بـlaquo;مناخ محاكم التفتيشraquo; نسخة ٢٠٠٧، واتهامات القرون الوسطي من تكفير وازدراء للأديان، وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وتعمد الإساءة إلي الكتب المقدسة والذات الإلهية، والتحريض علي ازدراء الملائكة والأنبياء، أصبح أمراً شبيهاً باستيقاظ الورود ومن حولها المستنقعات، وليس الحدائق.

أول شيء صفعني وأنا أشرب قهوتي - السكر زيادة - عنوان بالبنط الكبير في laquo;المصري اليومraquo; وفي الصفحة الأولي يقول: (شيخ الأزهر يوافق علي مقاضاة نوال السعداوي بتهمة laquo;الإساءة للذات الإلهية والقرآنraquo;)، والتفاصيل توضح أن أمي نوال السعداوي laquo;تتعمدraquo; هذه الإساءة في كتاباتها، وقد عقد شيخ الأزهر اجتماعاً طارئاً عاجلاً، خرج منه ببلاغ إلي النائب العام بسبب مسرحية أمي laquo;الإله يستقيلraquo; والتي سحبها الناشر تلقائياً.

والمحرر الذي كتب الخبر، يبدو أنه لم يقرأ في laquo;المصري اليومraquo; وغيرها، ولم يسمع في القنوات الفضائية، نفي نوال السعداوي laquo;هروبها خوفاًraquo;، ولكنها في مهمة عمل وتدريس وتسلم الجائزة الدولية للأدب الأفريقي، وأنها في حالة laquo;قرفraquo; وليست laquo;هروبraquo; لأنه قيل - وهذا لم يحدث في تصريحات والدتي -: laquo;هربت من اتهامات قضائية ودينيةraquo;،

ولماذا الإصرار علي كلمة laquo;الهروبraquo; وتصويرها كمن سرق سريقة، أو كخائفة أو عاجزة عن المواجهة، رغم أن هذا لم يحدث طوال معارك نوال السعداوي، لأن الباطل والكذب والإرهاب الديني المتفشي، لابد أن يرد عليه، خاصة في جريدة مثل laquo;المصري اليومraquo; التي تحرص علي النزاهة وإظهار الحقيقة بدقة، وليس الإثارة والتشويه، والصيد في الماء العكر، ولذلك فإنني أبادر بهذا الرأي.

إنني بقراءتي هذا العنوان، حينما استيقظت تحولت القهوة السكر زيادة، إلي قهوة سادة، وتبدل انشراح القلب إلي laquo;قرفraquo;.

ورغم أننا يومياً تتصدع رؤوسنا من تصريحات رفض الدولة الدينية من كُتّاب ومثقفين، وإعلاميين laquo;نساء ورجالاًraquo; من جميع الاتجاهات، حتي قيادات الجماعة المحظورة يقولون إنهم يرفضون الدولة الدينية،

ويوافقون علي عدم قيام أحزاب دينية، فإن ما يحدث في الواقع قصة مناقضة تماماً.. فما معني كل من هب ودب يقدم بلاغات تكفير وتطبيق حد الردة والحرابة؟ وما معني اتهامات الأزهر ورجاله ومجمع البحوث الإسلامية للمسرحيات والروايات والقصص والقصائد والكتب، بازدراء الأديان، وlaquo;تعمدraquo; الإساءة للذات الإلهية والكتب السماوية؟ ما معني مقاضاة نوال السعداوي بكل الإدانات التي عرفتها البشرية وكلها من الجهات الدينية الرسمية وغير الرسمية، بسبب كتابات إبداعية؟

ما معني أن تتم laquo;جرجرتيraquo; أنا وأمي إلي النيابة، للتحقيق في اتهامات دينية، ونحن كاتبتان، نكتب ونفكر ونبدع الكتب؟

بالنسبة إلي والدتي، فالسبب ليس الكتب أو الإبداع أو الاجتهادات العقلية، ولكن لأنها مستقلة وليست في بطانة أي نظام سياسي أو حزب سياسي، أو تكتل نسائي، وتنتقد بشجاعة الحكم السياسي في كل عصر.

ثم ما معني مصادرة الأزهر أعمال المبدعين والمبدعات، والمفكرين والمفكرات؟ وهل المبدعون عيال قُصَّر؟ مال الأزهر والإبداع والمسرحيات والقصص؟ ومال الجهات الدينية بالمؤلفات الفكرية؟ أليست هذه وصايا الدول الدينية؟ أليست كل هذه تصرفات وآليات laquo;الدول الدينيةraquo;؟

مافيش دولة مدنية يسود فيها هذا المناخ التكفيري بسبب الفكر والإبداع وحرية التمرد علي جميع أشكال الإرهاب، مافيش دولة مدنية تزايد علي الأديان. أعتقد أننا بالواقع والممارسة والمناخ، والوجدان الذي ترسب لسنوات طويلة، وبالآليات الدينية التي laquo;تجرجرraquo; المبدعين والمبدعات إلي المحاكم، laquo;دولة دينيةraquo;..

مش ناقص بس إلا الاسم، لكن نحن دولة دينية،
فيها كهنوت ديني يحكم باسم الحاكمية الإلهية، ويتولي الدفاع عن الله والأنبياء والكتب المقدسة، ليس حباً في شرع الله، ولكن حباً في مميزات السلطة، وامتيازاتها التي لا تأتي إلا في مناخ الإرهاب، وإشاعة الحديث نيابة عن كلام الله وأنبيائه، وكتبه، وملائكته.

إنها دولة دينية، تصيبني بالقرف والحزن والحسرة، وإن لم تأخذ اسم الدولة الدينية laquo;كان أولي بالأزهر أن يعقد اجتماعاً طارئاً لتقديم بلاغraquo; ليس ضد مفكرة وأديبة عالمية، ولكن ضد الحرامية، والمرتشين وتجار المخدرات، وسماسرة الجسد، وقاتلي النساء بالضرب وجرائم الشرف، ووهم التسلط الذكوري، وقاتلي المواطنين، ومؤلفي كتب الجنس الرخيصة، والدجل والشعوذة، وعذاب القبر، وقتلة الناس في العبارات والقطارات، والأسلاك العارية، وبالأنابيب التي تنفجر، وبأكياس الدم الملوثة،

والمواسير التي تغرق أرزاق الناس، وأخطاء الأطباء التي تقتل المرضي، والمسؤولين الذين يأخذون معونات للتنمية، لا تنمي شيئاً، والمسؤولين عن الإهمال، وإلهاء الناس في قشور، حتي يخضعوا للإرهاب الديني.

يقول التاريخ: كل من رفع قضايا دينية ضد المبدعين والمبدعات laquo;اندثرواraquo;، ولم يبق إلا أهل الإبداع الذين يصنعون الحضارات بشجاعة.