إياد أبو شقرا

اطلعت أخيراً على حصيلة المسح الاستبياني الذي أجرته مؤسسة غالوب الأميركية المرموقة عن اتجاهات الرأي في العالم الإسلامي إزاء العديد من القضايا الحيوية كالديمقراطية ومكانة الشريعة الاسلامية فيها، والعلاقة مع الغرب، ودور المرأة، ... إلخ.

ومع انه كتب أكثر من تقرير عن هذا المسح بأجزائه المختلفة، سأركز اليوم على لبنان، أحد البلدان المأخوذة كعيّنة، مع محاولة مقارنتها ببعض البلدان الأخرى التي شملها.

ما تعكسه للخارج الثقافة السياسية اللبنانية هو أن لبنان بلد تعدّدي وديمقراطي ومتحضّر وعلماني، رغم كل علامات الاستفهام التي ينبغي وضعها خلف كل من هذه الكلمات.

أيضاً لبنان هو الدولة التي يشكل فيها المسلمون أصغر الأغلبيات بين الدول التسع التي شملها المسح (منها مصر والأردن وإيران وتركيا)، ووحده فيه شيء من التعادل العددي بين السنة والشيعة بين الدول التسع.

في الجزء الأول، رداً على سؤال حول مكانة الشريعة الإسلامية في النظام السياسي كان اللبنانيون الأقل تأييداً لأن تكون الشريعة مصدر التشريع الوحيد بـ8% فقط مقابل تأييد 57% بأن تكون laquo;أحد مصادرraquo; التشريع ورفض 33% أن يكون لها أي دور في التشريع. وكانت النسب في إيران (13%/66%/14%) وتركيا (9%/23%/57%).

أيضاً كان اللبنانيون الأقل تأييداً لأن ينصّ الدستور على دور مباشر لرجال الدين في السلطة إذ رفض ذلك 85% منهم، بينما أيد 1% فقط أن يكون لهم دور استشاري وأيد 14% أن يكون لهم دور مباشر.

ومع استثناء مصر من هذا السؤال تبين أن الأردن يشكل الاتجاه المعاكس الأكبر إذ أيد 39% من الأردنيين دوراً مباشراً لرجال الدين و9% دوراً استشارياً ورفض أي دور 50%، وجاءت إيران قريبة نسبياً من الأردن (26%/14%/56%)، وكانت تركيا الأقرب إلى لبنان (16%/8%/72%).

وفي الجزء الثاني، كشفت الإجابات على سؤال عن علاقات العرب والمسلمين مع الغرب قبل اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 ثم في عام 2005، عن تزايد نفور اللبنانيين من السياسة الأميركية بنسبة بسيطة من 40% إلى 42%، وفي حين كانت الزيادة الأكبر عند الأتراك من 33% إلى 62% تناقص النفور عند الإيرانيين من 63% إلى 52%.

أما الجزء الثالث فيتعلق أحد أسئلته بشعور المواطن بأهمية الدين في حياته اليومية، وتبين أن 87% من اللبنانيين يعتبرون الدين مهماً في حياتهم اليومية مقابل 98% في مصر و92% في الأردن و86% في تركيا ... و74% في إيران. مع العلم أن الرقم في الولايات المتحدة كان 68% وفي بريطانيا 28% فقط.

ما معنى كل هذه الأرقام والمقارنات؟

أنا لست خبيراً في تقنيات الإحصاء لكنني أميل إلى استنتاج ما يلي:

1- اللبناني طائفي بالمضمون الفئوي/العشائري للكلمة وليس متديناً. فهذا ما يعنيه رفض87% من اللبنانيين تولي رجال الدين السلطة، وكذلك تأييد نسبة ضئيلة لا تزيد عن 8% اعتماد الشريعة مصدراً وحيداً للتشريع، مقابل نسبة الـ33% الرافضة قطعياً أي دور لها.

2- نسبة الـ57% الموافقة على دور ما للشريعة في التشريع، وكذلك الانقسام حيال النظر إلى السياسة الأميركية تجاه العرب والمسلمين (بحدود الـ40% /60%) يعكسان التمايز الطائفي والخوف المتبادل بين اللبنانيين من هيمنة اللون الواحد أكثر مما يعكسان الإيمان الديني العميق في مجتمع لا تشكل فيه طائفة بعينها أكثر من 30% إلى 40% من اللبنانيين.

3- عطفاً على ما تقدم، يصعب اعتبار نسبة الـ87% في إجابة اللبنانيين على السؤال عن laquo;أهميةraquo; الدين في حياتهم اليومية مؤشراً laquo;إيمانياًraquo; دينياً بقدر ما هو مؤشر هوية تمييزية في مجتمع فسيفسائي لا إجماع فيه على الهوية القومية.

جانب آخر جدير بالاهتمام من البعد اللبناني، هو الأرقام الخاصة بإيران وتركيا، وإسقاطاتها على الواقع الشيعي ـ السني في لبنان.

فإيران دولة ثيوقراطية ذات غالبية شيعية وثقافة سياسية معادية للغرب، بينما تركيا دولة علمانية ذات غالبية سنية عضو في حلف شمال الأطلسي وطامحة لدخول الاتحاد الاوروبي.

هذا واقع يعكسه الاختلاف الكبير على دور الشريعة في التشريع (السياسي)، فأكثر من نصف الإيرانيين (66%) مع دور ما، مقابل رفض أكثر من نصف الأتراك (57%) أي دور لها بالمطلق. ولكن في المقابل، يرى 86% من الأتراك (رغم علمانيتهم) أن الدين عنصر مهم في حياتهم اليومية مقابل 74% فقط عند الإيرانيين الذين يعيشون في ظل الولي الفقيه.

أيضاً من اللافت الاختلاف في النظرة إلى واشنطن قبل 11 سبتمبر 2001 ثم بعد غزو العراق وأفغانستان، إذ تراجع النفور الإيراني من واشنطن بـ12 نقطة مئوية بينما ارتفع النفور التركي بـ29 نقطة مئوية (من الثلث إلى الثلثين تقريباً).

المسألة كما أزعم لها وجهان:

ـ الوجه laquo;الإيمانيraquo; الديني الذي يميز laquo;جمهورَيraquo; دولة سنّية سارت منذ نحو ثمانية عقود على النهج العلماني قبل أن تظهر فيها بوادر حنين إلى الدين ... ودولة شيعية إثنى عشرية تحولت منذ عقود قليلة إلى مفهوم الولي الفقيه من دون إجماع وطني.

ـ الوجه laquo;الطائفيraquo; القومي بما له من صلة بأداء نظامين سياسيين في قوتين إقليميتين كبيرتين لهما مصالح متناقضة وأخرى متقاربة إزاء التطورات الإقليمية والعالمية. وحيال موضوع الحرب الأميركية على laquo;الإرهابraquo;، لا شك في أن الشارع التركي ـ المحبط أصلاً من مستوى التعامل الغربي معه في الموضوعين الأوروبي والقبرصي ـ لم يكن مرتاحاً مثلما كان الإيرانيون مرتاحين لإطاحة واشنطن نظامين سنيّين معاديين لإيران على حدودها الشرقية والغربية. إن الاختلافات جلية سواء في مستوى الترجمة السياسية للمضمون الديني أو اتجاهاته التطبيقية العملية عند الطائفتين المسلمتين الرئيستين في تركيا وإيران. وإذا ما نحينا جانباً حجم الدولتين وثقلهما وإرثهما الإمبريالي على المستوى الإقليمي نجد أن التنافر الحاصل في الساحة اللبنانية الصغيرة يلخص هذه الاختلافات بصدق مقلق. ويمكن للأرقام الإحصائية ـ التي قد تبدو محيرة بعض الشيء عند أول وهلة ـ أن توضح جانباً مهماً من ديناميكيات اللعبة الطائفية الخطيرة في لبنان.