ميشيل ماركوس - بروجيكت سنديكيت

بينما كانت الحرائق تشتعل في المدن الفرنسية، كانت دول أخرى بالغة القسوة في إصدار الأحكام على فرنسا، فأصدرت السفارات تحذيرات إلى السائحين ورعاياها الذين يقيمون في فرنسا، وبثت البرامج الإخبارية التلفزيونية ساعات من المواد المصورة لسيارات محترقة. ويبدو أن حكومات الدول الأخرى كانت تحاول إبعاد نفسها عن المشكلة، خشية الإصابة بالعدوى التي تدرك أنها ستنتشر على الأرجح.

لكن محافظي المدن الكبرى في كافة أنحاء أوروبا كانت ردود أفعالهم أكثر اعتدالاً، وقد شعروا بالمحنة التي يمر بها زملاؤهم الفرنسيون، وأبدوا تضامنهم معهم، فهم يدركون أن مدنهم أيضاً معرضة لمثل هذا النوع من أعمال العنف، بسبب جيوب التفاوت الاجتماعي التي لا تزال قائمة في مجتمعاتهم، بما في ذلك الشباب المُهَمَّشين والمستبعدين.

إن خصوصية الموقف الفرنسي تكمن في أن التمرد في فرنسا موجه نحو الدولة، وعلى نحو أكثر تحديداً، ضد قوات الشرطة. وعلى عكس أعمال الشغب التي وقعت في المملكة المتحدة أخيراً، والتي كانت بين أعراق مختلفة، فإن المواجهات الحالية في فرنسا تضع المتورطين فيها وجهاً لوجه مع قوات الشرطة. ولا تتسم أعمال الشغب هذه بطبيعة دينية أو عرقية محددة، حيث شارك في أحداثها شباب من خلفيات عرقية متنوعة.

مما لا شك فيه أن المحللين قد بالغوا في تقدير حجم الشباب من الأقليات بين أولئك الذين تورطوا في أعمال الشغب. وهذا ببساطة يرجع إلى العزل الجغرافي، وارتفاع معدلات البطالة ومعدلات التسرب من المدارس، والعلاقات غير العادية المستمرة بين هذه الطائفة من الناس وبين النظام القضائي الجنائي.

ولكن في ضوء تنوع انتماءات الشباب الذين أدينوا حتى الآن، فمن الخطأ أن نقول إن أعمال الشغب هذه كانت نتيجة للتطرف الإسلامي، فحتى الآن لا توجد أي إشارة على الإطلاق توحي بوجود شبكات منظمة أو جماعات دينية تستغل هؤلاء الشباب. ولا أعني بهذا بالطبع أن المتطرفين لن يستغلوا هذه الفوضى إذا لم يتم التوصل إلى حل سريع ومرضٍ لهذه الأزمة.

قد لا تكون أعمال الشغب منظمة فحتى الآن لم يظهر إلى السطح زعماء محددون أو مطالب سياسية واضحة، إلا أننا نستطيع أن ننظر إلى هذه الأعمال العنيفة بوصفها صراعات سياسية، ذلك أن الشباب يتحدون الدولة بصورة مباشرة من خلال مهاجمة ممثليها. ويبدو هذا العنف متناسباً مع إحساس هؤلاء الشباب المحرومين من الحقوق والامتيازات بالظلم الواضح وافتقارهم إلى الفرصة للتعبير عن ذاتهم.

ومن هنا ندرك أن فرنسا تدفع اليوم ثمن افتقارها طيلة الأعوام الثلاثين الماضية إلى الاستمرارية والتماسك، وعجزها عن توفير التمويل الملائم لدعم سياسات التنمية الاجتماعية. وعلى الرغم من أن هذه السياسات قد ساعدت بلا شك المقيمين في المناطق المحرومة، إلا أنها لم تكن على درجة من الطموح تسمح لها بتهدئة مشاعر الغضب وتخفيف الاستياء.

وتتضمن الأمثلة على تلك السياسات المفرطة في التردد والعصبية، المبالغة في الاعتماد على أساليب الشرطة. ففي خلال الأعوام القليلة الماضية، ميزت فرنسا نفسها عن غيرها من الدول الأوروبية بتخليها تدريجياً عن الضبط الشرطي ذي التوجه المجتمعي، والذي تعتبره الحكومة مغرقاً في الاجتماعية وتتهمه بالاعتماد على الأساليب الوقائية. وبينما تضع قوات الشرطة الأوروبية محاولات الوقاية والمنع على قمة أولوياتها، فقد اختارت فرنسا أن تتعامل مع الوقاية باعتبارها هدفاً ثانوياً، ونتيجة لهذا، فقد تنامى التوتر إلى درجة لم يسبق له مثيل بين الفئات المحرومة من السكان وقوات الشرطة، التي أصبحت تبدو دخيلة على نحو متزايد.

وفي غياب التوجه المعتمد على المجتمع أصبح التفاعل بين سلطات فرض القانون وهذه الفئة من الناس مقتصراً على مواقف متوترة يهيمن عليها الصراع، الأمر الذي أدى إلى تصعيد جو المواجهة بين الشباب المتمرد وقوات الشرطة. وفي ذات الوقت، فإن اضطرار ممثلي الشرطة إلى التدخل في مناطق غير مألوفة بالنسبة لهم يؤدي إلى إعاقة فعاليتهم على نحو واضح.

كما تنبهنا الأحداث التي جرت في فرنسا إلى الحاجة الملحة على الصعيد الأوروبي إلى تعزيز السياسات في مواجهة حالات التمييز وعدم المساواة، ودعم السياسات التي تشجع العدالة الاجتماعية. وعلى الرغم من ضرورة تنفيذ مثل هذه السياسات على مستوى محلي، إلا أنه من الضروري أيضاً أن تضطلع المؤسسات الأوروبية بدورها في تحفيز هذه السياسات ودعمها. والحقيقة أن الجهود في هذا المجال متوافرة بالفعل، لكن الحاجة أصبحت ملحة الآن لتعزيز هذه الجهود وترسيخها.

إن العدالة والتماسك الاجتماعي يشكلان حجر الزاوية لمحاولات دعم الحرية والعدالة وتوفير الأمن للمدن الأوروبية. ولهذا، يتعين على محافظي المدن في أوروبا أن يبادروا بدعوة المؤسسات الأوروبية إلى التركيز على التماسك الاجتماعي بنفس القدر من الالتزام الذي تم استثماره حتى الآن في التعامل مع قضايا اللجوء السياسي ومراقبة الحدود.