القاهرة - أمينة خيري

laquo;مصائب قوم عند قوم فوائدraquo;، ومصائب آلاف المواطنين والمواطنات من عابري laquo;كوبري 6 أكتوبرraquo; في القاهرة يومياً ذهاباً وإياباً هي منافع ومكاسب وأرباح لشركات ومصانع وأفراد.

جسر 6 اكتوبر - أو laquo;كوبري أكتوبرraquo; كما يطلق عليه في مصر- ظاهرة اجتماعية وثقافية واقتصادية وأحياناً جغرافية غاب عن الجميع درسها وتحليلها. فالجسر الذي يقطع أكبر محافظتين مصريتين طولاً - وفي بعض المناطق عرضاً - وهما القاهرة والجيزة أشبه بالمدينة التي بدأت صغيرة ونمت وكبرت ثم توغلت وتوحشت حتى صارت منظومة قائمة بذاتها لها طباعها وسماتها المميزة وتقاليدها الخاصة. كلفته الأصلية بلغت نحو 450 مليون جنيه مصري، إضافة إلى ما يستجد من عام الى آخر بسبب التوسعات والتفريعات الجديدة التي تبعث أملاً بشيء من السهولة المرورية.

هذا الجسر الذي خرج إلى النور في مرحلته الأولى قبل نحو ثلاثة عقود يمتد على نحو 15 كيلومتراً، وهو الذي نقل سكان القاهرة الكبرى من عهد التحرك في الشوارع العادية إلى عصر الجسور، حتى بات جزءاً من حياة المواطن المصري وذاكرته.

وكان الغرض من تشييد الجسر حل بعض الأزمات المرورية وتقليل مدة الانتقال من شرق القاهرة إلى وسطها وشمالها وجنوبها، إلا أن الزحف العمراني والانفجار السكاني المستمرين لم يحققا هذه الغاية بل تحولت عملية عبور الجسر على مدى السنوات، وبفعل العوامل الديموغرافية والسلوكية الخاصة بقائدي المركبات، إلى ما يشبه الملحمة.

فمثلاً، المسافة بين مطلع الجسر في حي مصر الجديدة إلى وسط القاهرة يفترض أن تستغرق بين 15 و 20 دقيقة، لكنها تتراوح بين 30 و 60 دقيقة وتزيد بحسب الظروف المحيطة. وتتراوح هذه الظروف بين laquo;تغابيraquo; السائقين وتفننهم في عمل laquo;الغرزraquo; و laquo;المقصاتraquo; أعلى الجسر ما يتسبب في الحوادث المرورية وانفلات الأعصاب، ومن ثم تعطل حركة السير. وقد يتفاقم هذا التعطل ليصل إلى درجة الشلل التام وذلك في اثناء انعقاد الجلسات غير العادية لمجلس الشعب (البرلمان) التي يحضرها كبار الشخصيات، أو أثناء الزيارات الرسمية أو تنقلات الوزراء وكبار المسؤولين، إذ يتم تعطيل حارات السير أعلى الجسور، وبالتالي تحويل الجسر الحيوي إلى محبس للمركبات بقائديها وركابها. وقد تحدث هذه الاختناقات كذلك في أيام المباريات المهمة، لا سيما لفريقي الأهلي والزمالك أو لدى افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب، أو غيره من الفعاليات ذات الطابع الدولي أو الجماهيري.

وأشارت دراسة هندسية أجريت على الجسر إلى أن سكان القاهرة وروادها من مستخدمي الجسر يهدرون خمسة ملايين ساعة سنويا من أعمارهم وهم محبوسون أعلى الجسر انتظاراً لحدوث الانفراجة المرورية. أما مسؤولو المرور فيشيرون إلى أن السعة الاستيعابية لشوارع العاصمة هي نصف مليون سيارة، إلا أن العدد الفعلي للسيارات حالياً في القاهرة يزيد على 2.5 مليون سيارة، أي أن القاهرة تحوي حالياً خمسة أضعاف طاقتها الاستيعابية.

هذه الفرصة الذهبية التي تتمثل في ذلك الاحتشاد الشعبي اليومي غير المسبوق وغير المعهود في العالم تحقق لأصحاب الأعمال والشركات ميزة قلما تتوافر في السوق. فتيبس الآلاف يومياً في بقعة محدودة من دون حركة يتيح لهم التجوال بأعينهم يميناً ويساراً ما دفع العديد من الشركات إلى استثمار هذا الوقت في الترويج لبضائعهم، لا سيما من خلال مداعبة خيال قادة السيارات وركابها الذين لا حول لهم ولا قوة، ولا اختيارات أمامهم سوى التأمل في اللوحات الإعلانية الضخمة المثبتة أمامهم على جانبي الجسر. laquo;نعلن عن رحلات يومية على متن طائراتنا من القاهرة إلى لندن والعودة مع التسوق في أشهر المحال البريطانية في مقابل جنيه مصري واحد. مع تحيات الشوكولاته الفلانيةraquo;، laquo;في كل شهر ينضم مواطن إضافي الى قائمة أصحاب السيارات الشيروكي لأنه أكل بيتزا كذاraquo;. و laquo;حسين يستخدم laquo;لاب توبraquo; أحدث موديل لأنه داوم على أكل جبن كذا بالطاقة والكالسيومraquo;

مداعبة الخيال لا تتوقف على المسابقات والجوائز التي قلما تخرج من صفحات الجرائد والإعلانات إلى الواقع، لكنها تداعب كذلك آلام من فشلوا في اللحاق بأعمالهم وجامعاتهم ومدارسهم ومصالحهم في الوقت المحدد واضطروا إلى تجرع عناء الانتظار مع استنشاق دخان العوادم والسموم المنبعثة حولهم من كل صوب والمرتفعة من أسفلهم بفعل السيارات التي فضلت انتهاج الشوارع السفلية. فهذا إعلان مياه غازية يدعوك الى أن laquo;تغمض عينيك وتتخيل انك في جزر البهاما وترتشف مشروب كذا الغازي المثلج وأمامك مياه المحيط الزرقاء الصافية وإلى جوارك الوجه الحسنraquo; وهكذا.

كما أثبتت هذه المساحات الإعلانية الضخمة وجودها السياسي، إذ شهدت استغلالاً جديداً لم يعهده رواد الجسر إبان الاستفتاء على تعديل المادة 77 من الدستور، ثم أثناء حملة الرئيس حسني مبارك الانتخابية. ويتوقع أن يتعرض رواد الجسر لمزيد من الإعلان السياسي في مناسبات سياسية حاسمة مقبلة.

هذه المساحات الإعلانية تساهم كذلك في حجب الرؤية عما يقع خلفها من البيوت المتهالكة الملتصقة ببعضها بعضاً في ملحمة سكانية شعبية عشوائية. وإذا كانت هذه اللوحات الضخمة تحقق مكاسب لأصحابها من المعلنين وتخفف من احتقان المحتقنين أعلى الجسر بتشتيت انتباههم ولو موقتاً بعيداً من سجنهم بين السماء والأرض، فهي كذلك حققت للآلاف من قاطني البيوت الواقعة خلفها مطلباً حقوقياً عادلاً، الا وهو تحقيق قدر ولو ضئيلاً من الخصوصية التي انتهكها الجسر تماماً، بعدما أطاح مشيدوه، لا سيما في مراحله الأولى، بكل قواعد البناء المتعارف عليها والمكتوبة في كتب الهندسة، إذ كاد الجسر أن يمر في داخل شرفات عدد من المواطنين، وهو ما كان يقدم للمحبوسين أعلى الجسر فرصة التلصص على مجريات الأمور في داخل بيوت المواطنين القاطنين مباني ملاصقة للجسر.

من جهة أخرى، ومع زيادة اختناقات الجسر وعذاباته اليومية وزيادة متوسط عدد الساعات المهدورة أعلاه، بادر عدد من المتطوعين إلى تقديم يد العون والنصح والإرشاد إلى زملائهم ممن يمرون بمثل هذه المعاناة laquo;الجسريةraquo;. وتحفل منتديات الإنترنت ومواقعها بمقالات إرشادية وأخرى ساخرة من شأنها أن تساعد على اجتياز هذه الملحمة المرورية. فكتبت إحدى المتعذبات جراء الاضطرار إلى اللجوء إلى الجسر مرتين يومياً منذ كانت طالبة جامعية مقالاً ساخراً عنوانه laquo;أنا من ضيع في الطريق عمرهraquo;. وبادر آخر إلى تدوين عشر طرق لتمضية أوقات laquo;الزنقة المروريةraquo; أعلى الكوبري بأسلوب مفيد ولا يخلو من متعة.

كما يبرهن الجسر الشهير على أنه متعدد الفوائد وذلك من خلال عشرات laquo;الكناسينraquo; ممن يصطفون يومياً في مناطق معينة، وهي المناطق المعروفة بـ laquo;عنق الزجاجةraquo; والتي تشهد عقداً وعراقيل مرورية حتى في غير أوقات الذروة بسبب ضيقها.

raquo;كوبري أكتوبرraquo; هو عصب الحياة في القاهرة الكبرى يومياً، وأرصفته العريضة أعلى نهر النيل ملاذ الفقراء في ليالي الصيف الخانقة، وأرصفته الضيقة المختفية في الأماكن المظلمة ملجأ المحبين والمحبات الهاربين من العيون المتلصصة، وحاراته تتسع لضعف السيارات المصممة في الأصل لها، ومنازله مواقع مختارة لللباعة الجوالين ممن يقدمون الشاي والقهوة أو الساندويتشات السريعة أو بائعي الورود والمعتمدين في تجارتهم على مرتادي الجسر وعراقيله المرورية.