عبد الحميد الأنصاري

نشرت صحف سعودية، أن المملكة قررت إبعاد المدرسين الذين يحملون فكراً متطرفاً حتي لا يؤثروا علي الطلبة، وأصدر مجلس الخدمة المدنية السعودية، قراراً بشأن معاملة الموظف المشمول بلائحة الوظائف التعليمية الذي يري وزير الداخلية أو الوزير المختص، إبعاده عن سلك التعليم لأسباب موجبة، ومنها: إبعاد من يحمل أفكاراً متطرفة إلي وظائف أخري غير تعليمية، أو إحالته إلي التقاعد.
تأتي هذه الخطوة في سياق سلسلة من الخطوات العملية تشكل سياسة عامة متكاملة تنهجها الدولة عبر مؤسساتها المختلفة المعنيّة بالتربية والتعليم والتثقيف والدعوة والإرشاد، تهدف إلي مواجهة الفكر المتطرف وأصحابه من جماعات العنف مواجهة شاملة فكرياً وأمنياً وعدم الإكتفاء بالمواجهات الأمنية الفعالة في كشف الخلايا التنظيمية ومطاردة الفلول الإرهابية ومراقبة العناصر الخطرة والقبض علي العناصر الإجرامية ومحاكمتها، لأن الإرهاب وليد فكر متطرف ونفسية مشحونة بثقافة الكراهية ضد كل من يخالفها في الرأي أو المعتقد.

لقد بلغ توحش الفكر المتطرف في المملكة أن استهدف 4 فرنسيين - بعضهم مسلمون كانوا في طريقهم إلي مكة المكرمة لآداء العمرة - ذبحوا أمام ناظري أطفالهم ونسائهم، من غير جريرة وبدون رحمة.

نعم لقد نجح الأمن السعودي في تصفية معظم المطلوبين في القوائم الأمنية المتتالية (19)، (26)، (36) أو القبض عليهم علي امتداد السنوات الثلاث التي انتعش فيها المدّ الإرهابي في معظم الدول العربية والإسلامية والأوروبية، واستطاع توجيه ضربات، قصمت ظهر القاعدة في المملكة، دمّرت أوكارها وقضت علي رموزها ورؤوسها، ولكن هناك خلايا نائمة أو متعاطفة تنتهز الظروف الملائمة لتنشط وتعربد وتفسد في الأرض، ولذلك لابد من خطة متكاملة تستطيع تفكيك بنية الفكر المتطرف عبر مراجعة مؤسسات ومناهج ومنابر التوجيه الرئيسية والتي تشكل ثقافة المجتمع، وتهييء الأرضية والبيئة الحاضنة المشجعة للتوجهات والأفكار والسلوك - سلباً أو إيجاباً -.

وفي إطار هذه الخطوات المتكاملة لمواجهة الفكر العنيف نتذكر أنه خلال السنوات الماضية تم إبعاد الآلاف من الأئمة والخطباء المحرضين علي الكراهية والعنف عن منابر التوجيه والخطابة، وقد اتهم آل الشيخ - وزير الشئون الإسلامية في السعودية في حينه، بعض الدعاة بمجاملة الإرهابيين فكرياً، إذ حوّلوا منابر بيوت الله الي منابر للغلّو وقلبوها منابر سياسية تحريضية، فأصبح خطيب الجمعة خبيراً سياسياً ومحللاً اقتصادياً وقائداً عسكرياً يعلن الجهاد من فوق المنبر الجامع ويحرّض الشباب للذهاب للجهاد في العراق والشيشان ويدعو المجاهدين بالنصر وهو يقصد زعماء الإرهاب والجماعات الإرهابية ، وهكذا أصبحت منابر بيوت الله التي هي مصدر للإعلام والتسامح والقيم الجامعة منابر لترويج طروحات وأفكار سياسية عدائية وطائفية تعصبية.

لقد كان الخطاب التحريضي ضد الآخر سواء المحلي المختلف مذهباً أو طائفة أو الآخر الأجنبي من أكبر أسباب انتعاش الفكر الإرهابي واستفحاله وضراوته وتوحشه وجنونه، وساهمت منابر دينية وفتاوي تكفيرية ومواقع أصولية وفضائيات جهادية في اصطياد الآلاف من الشباب ودفعهم الي محاضن الجماعات الإرهابية بحجة الجهاد المفتري عليه.

ومن هنا نفهم ونقدّر ونثمّن الجهود المبذولة في المملكة العربية السعودية تجاه اجتثاث هذا الفكر الضال المضلل وحماية الشباب من أخطاره.. ولعلنا نتذكر احتضان السعودية لقمة مكة التي جرّمت الفتاوي التحريضية وتبنت وثيقتي بلاغ مكة و خطة العمل العشرية لمواجهة تحديات القرن 21 ونتذكر بيانها الختامي الذي أكد عزم قادة العالم الإسلامي علي مواجهة الفكر المتطرف - المتستر بالدين والمذهب - وإدانتهم الإرهاب بكل صوره وأشكاله - دعما وتمويلا وتحريضا - ومطالبتهم بتجريمه، رافضين كل المبررات والمسوّغات المروجة له. وقد تضمن البيان ولأول مرة: إقرار المؤتمرين صحة إسلام كافة المذاهب الإسلامية المؤمنة بأركان الإسلام، وذلك لقطع الطريق علي الفتاوي التي تكفر الشيعة في العراق كتبرير للإرهاب - ومثل هذه الفتاوي التكفيرية الفتاوي التخوينية التي تطعن في وطنية وعروبة الشيعة والتي أطلقها بعض رموز الإسلام السياسي بحجة أن الشيعة متعاونون مع المحتل، ومن تعاون مع المحتل يُقاتل لا فرق بين مدني أو عسكري - وهي الذريعة التي اعتمدها الزرقاوي وجماعته في استباحة دماء الشيعة بالعمليات الانتحارية التي لم تفرق بين مدني أو عسكري، طفلاً أو امرأة أو عاملاً أو طالباً.

ولا ننسي في هذا المجال أن أئمة السلفية في السعودية مثل الشيخ بن باز و العثيمين و آل الشيخ رفضوا بحزم أن ينقادوا للغرائز الجماهيرية وتصدوا بقوة لظاهرة خطيرة لم تكن معروفة من قبل، وهي تنّم عن أزمة أخلاقية وفكرية عظيمة لدي المسلمين، هي ظاهرة العمليات الإنتحارية فأجمع أئمة السلفية علي تجريم وتحريم العمليات الإنتحارية - مطلقاً - وقولاً واحداً - رافضين أي تبرير سياسي أو توظيف للدين في سوق السياسة كما هو مذهب فقهاء الإسلام السياسي الذين أباحوا هذه العمليات تحت مسمي أسمي أنواع الجهاد وهو لا يعدو أن يكون فقه اليأس والإحباط وتدمير الذات. لقد قال فقهاء السلفية إن العمليات الانتحارية حتي في العدو محرّمة وجريمة مزدوجة قتل النفس وقتل الآخرين ومن فتح باب العمليات الإنتحارية عليه وزرها إلي يوم القيامة.

ويأتي في سياق الجهود المبذولة لترسيخ مفهوم المواطنة ونبذ الفكر المتطرف ومواجهة الغلو ونشر ثقافة التسامح الاجتماعي وتعزيز الوحدة الوطنية وتقوية المناعة الداخلية للمجتمع، توجه الدولة نحو تشجيع وتفعيل الحوارات الوطنية بين عناصر وطوائف وأبناء المجتمع الواحد، إن المحور التعليمي من أهم المحاور التي تعزز حصانة و مناعة المجتمع ضد أفكار التطرّف ولذلك فإن مراجعة المناهج وإعادة النظر في المحتوي المعرفي وإبعاد دعاة ثقافة الكراهية وإعادة تأهيل المعلمين والمعلمات وتحسين البيئة التعليمية عبر مشروع لتطوير التعليم متكامل هي من أهم الأولويات في ضرب مواجهة الإرهاب وتفكيك بنية الفكر الإرهابي.