فهمي هويدي

يقتضينا الانصاف أن نقر بأن الدولة المصرية نجحت في اجهاض محاولات تسويق الادعاء بأن الإسلام هو المشكلة.

(1)

حدث ذلك في اجتماع المجلس الأعلى للسياسات يوم الخميس الماضي الذي نوقشت فيه حصيلة المناقشات التي جرت في مصر خلال الاسابيع الماضية حول التعديلات المقترحة على الدستور. واعلن بعد الاجتماع في تصريح شبه رسمي انه ليس واردا تغيير المادة الثانية من الدستور (التي تنص على أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة المصدر الاساسي للتشريع) ووصف التصريح الادعاءات التى روج لها البعض بالاتجاه الى تعديل تلك المادة بأنها ldquo;استهدفت التشويش على التعديلات الدستورية واهدافهاrdquo;. (الاهرام 9/3).

هذا الكلام لم يأت من فراغ، كما أنه لم يصدر عن تحيز ايديولوجي، بقدر ما صدر عن تقدير سليم، اتسم بالوعي والمسؤولية. ولست اشك في أنه اعلن لكي يحسم البلبلة التي سادت الشارع المصري، بعدما تعالت اصوات نفر من المثقفين طيلة الاسابيع التي خلت داعية إلى الغاء المادة الثانية أو اضعافها. وقد ترددت تلك الدعوات في ثنايا مقالات عديدة في الصحف اليومية، وحوارات اخرى في البرامج التلفزيونية. ووصل الأمر إلى حد نشر مقالة في صحيفة ldquo;القاهرةrdquo; التي تصدرها وزارة الثقافة (في عدد 6/3) عنوانها كالتالي: المادة الثانية من الدستور هي التي قتلت السادات وفرقت نصر أبو زيد عن زوجته (!) وابرزت الصحيفة على صفحتها الأولى بيانا لمائة من المثقفين المصريين (موقفهم يكشف عن هوياتهم) كان بمثابة نداء دعا إلى عدم الابقاء على المادة الثانية بحجة ldquo;أن النص على دين محدد للدولة ينطوي على اخلال بالموقف الحيادي لها تجاه مواطنيها الذين ينتمون إلى اديان وعقائد متعددة فضلا عن أن التعديل الذي أدخل على المادة في عام 1980 لا يورد مصادر أخرى للتشريع، مما يجعل الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيدrdquo; ثم إن تجربة ربع قرن من سريان النص ادت إلى تراجع الدور الحيادي للدولة تجاه مواطنيها، والى انتهاك الحق في المساواة.

(2)

هذا الخطاب كان له مفعوله في ldquo;التشويشrdquo; على التعديلات الدستورية، كما قيل بحق. وهو ذاته الذي انتقدته في مقالة الاسبوع قبل الماضي (27/2)، التي نشرت في هذا المكان تحت عنوان ldquo;حوار ضل طريقهrdquo;، وختمته بالاشارة إلى أنه ldquo;عبر عن انتهازية لم تستفز المشاعر الايمانية في البلد فحسب، ولكنها اساءت ايضا الى مفهوم ومقاصد الاصلاح السياسيrdquo;.

لقد كان مريبا ومثيرا للانتباه أن يصوب بعض المثقفين سهامهم نحو النص على دين الدولة ومرجعية مبادئ الشريعة، في حين أن مراجعة النص أو تعديله لم تكن واردة في حزمة التعديلات المقترحة (التي تناولت 34 مادة). واذا شئنا أن نتصارح اكثر فلا مفر من الاقرار بأن الرسالة التي تلقاها المجتمع في هذا الخصوص من اولئك النفر من المثقفين كانت تقول بوضوح تام: إننا لا نثق في جدارة الإسلام وقدرته على حماية حقوق المواطنين ولا في مرجعيته للتشريعات، الامر الذي يعالج بأحد خيارين، احدهما يقضي بحذف الاشارة إلى وجوده وإلى الالتزام بمرجعيته، والثاني يدعو إلى تعديل نص المادة بحيث يتم تقليص الحضور الإسلامي فيها. وهو ما انحاز اليه بيان المثقفين المائة الذي سبقت الاشارة اليه. فقد اقترحوا نصا بديلا اكتفى بالاشارة إلى أن الإسلام دين غالبية المصريين (وليس دين الدولة). وأن القيم والمبادئ الكلية للأديان والعقائد مصدر من المصادر الرئيسية للتشريع، بما لا تتناقض مع التزامات مصر

طبقا للمواثيق الدولية لحقوق الانسان..الخ.

الخياران تعاملا مع الإسلام باعتباره ldquo;مشكلةrdquo; يتعين حلها. واذ اتفقا على هذا التشخيص، إلا انهما اختلفا في طريقة العلاج، بين ldquo;جراحينrdquo; انحازوا إلى البتر والاستئصال، ومعالجين كانوا اكثر ldquo;تسامحاrdquo;، فجاملونا بالاشارة الى أنه موجود في مصر، واختاروا أن يخففوا من ldquo;وجعهrdquo; بالحد من مرجعيته وتقليص حضوره في المجال العام. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن الاولين انحازوا إلى احداث مفاصلة وقطيعة نسبية مع الإسلام، في حين أن الآخرين فضلوا تمييع الهوية الإسلامية والاحتكام الى مرجعية يطمئنون اليها اكثر من الإسلام، هي المواثيق الدولية لحقوق الانسان.

لم يقولوا صراحة إن العلمانية هي الحل، ولكن واحدا ممن تفاعلوا مع الرسالة افصح عن ذلك، فكتب يقول : لماذا لا نطرح على انفسنا السؤال: ما الذي حققته تركيا العلمانية؟ والى اين صارت؟ ونحن بالشريعة الإسلامية علام اصبحنا؟ (الاهرام 5/3) وترك لنا الكاتب الهمام أن نجيب عن السؤال. لنعرف لماذا هم افلحوا، وعلى من نلقي بالمسؤولية عن تخلفنا وخيبتنا.

(3)

التحرش بالحضور الإسلامي في الدستور ادى الى تسميم اجواء الحوار حوله. وهو ما ظهر بوضوح اثناء صياغة مادته الاولى. ذلك ان خطاب ldquo;التشويشrdquo; اتكأ على الملف القبطي وتذرع به في دعوته إلى الغاء المادة الثانية أو اضعافها. الامر الذي اعطى انطباعا قويا لدى البعض بأن الإسلام والمسيحية لا يمكن أن يتعايشا كما هما، وأنه لا سبيل الى إرضاء الاقباط إلا بتراجع دور الإسلام في المجال العام. وهو ادعاء خطر فيه من الوهم الكثير وفيه من المغامرة اكثر. من ناحية لأن الادعاء ليس صحيحا لا معرفيا ولا تاريخيا، وهو ما سأعرض له بعد قليل. ومن ناحية ثانية لان صياغة الموقف بهذه الصورة تمثل استفزازا للأغلبية وقهرا لها، يهدد استقرار المجتمع وينذر باحتمالات تفجيره طائفيا في الداخل.

كانت المقترحات المبدئية لتعديل الدستور قد دعت الى اعادة صياغة مادته الاولى التي تتحدث عن الدولة ونظامها وشعبها، بحيث تتضمن نصا على مبدأ المواطنة، بديلا عن ldquo;تحالف قوى الشعب العاملrdquo; غير أن مناقشات الصياغة سادها جو من عدم الثقة ادى الى احتدام الخلاف حول هذه النقطة. اذ رغم أن الجميع كانوا متفقين على مفهوم المواطنة، إلا أن خلافهم انصب على كيفية التعبير عنه، وهل يكون بذكر كلمة المواطنة، أم بتجنب الاشارة إلى المصطلح، والاكتفاء بالحديث عن معناه المتمثل في المساواة بين المواطنين وتكافؤ الفرص بينهم في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن الدين أو الجنس او غيرهما.

المناقشة بدت عبثية من عدة اوجه. فهي لم تدر حول النص بقدر ما أنها جرت حول ما هو مخبأ تحته، فالمعارضون ظنوا أنه يفتح الطريق للعلمنة، والمؤيدون تصوروا أنهم به يحاصرون تيار الإسلام السياسي ويسترضون الاقباط. وبدت حساسية المعارضين غير مبررة، بل الضرر في موقفهم اكثر من النفع، خصوصا أن المتربصين والمتصيدين صوروا معارضتهم وكأنها ضد مبدأ المواطنة ومفهومها وليست ضد ما ظنوا أنه كامن في ثناياه. كما أن الذين تمسكوا بالنص على المصطلح بدا موقفهم بدوره غير مبرر، لأن ثمة نصا آخر في الدستور (المادة 40) يغطي بالكامل فكرة المواطنة، ويلبي متطلباتها، بما لا يحتاج الى نص آخر. الأمر الذي يعني أن كل طرف انطلق في المناقشة من ظنونه ومخاوفه من الآخر باكثر مما انطلق من حسابات مصلحة المجتمع والوطن.

من ناحية اخرى فإن الإلحاح على ذكر كلمة المواطنة في المادة الاولى الذي كانت واضحة فيه مجاملة الاقباط، اضفى على الحوار ملمحا طائفيا. فظهر المتحاورون بحسبانهم مسلمين أو اقباطا أو مجاملين للاقباط، وليس بحسبانهم مواطنين مصريين.

وكان مثيرا للانتباه أن المبارزة اللغوية استحوذت على المشهد في صياغة مبدأ المواطنة، في حين لم يتطرق احد لا من قريب أو بعيد الى حقوق المواطن وضماناتها. مما يعني أن الذي استهلك طاقة ووقت المتحاورين هو اللافتة وليس الوظيفة، الامر الذي حول المواطنة في السجال الى مجرد ldquo;رتبة شرفيةrdquo; تضاف إلى لقب الفرد وبطاقته ولا تجد ترجمة لها او مردودا في واقعه.

(4)

بقيت عندي اربع كلمات في الموضوع أوجزها فيما يلي:

إن الملفات التي استدعيت اثناء مناقشات التعديلات الدستورية ابعد ما تكون عن هموم الناس الحقيقية ومشكلاتهم الحياتية. وهي في احسن احوالها أمور تهم السلطة وبعض شرائح النخبة، أي انها شواغل دوائر محددة للغاية في المجتمع، فرضت على الرأي العام بقوة وسائل الاعلام، حتى إن كل من يغادر العاصمة الى محافظات الدلتا أو الصعيد بات يصادف كثيرين يسألونه بدهشة: ما هذا الضجيج الذي يحدث في القاهرة؟

إن الذين يخافون على الإسلام في مصر اضعاف الذين يخافون منه. ومن حق الاخيرين أن يعبروا عن مخاوفهم، كما إن لهم ان يبسطوا آراءهم، وان يحتفظوا بحقهم في عدم الاقتناع بما يتلقونه من ردود، من دون أن يقلل ذلك من حظوظهم من الاحترام والتقدير. لكن هؤلاء يجاوزون الحدود اذا اصروا على فرض آرائهم ووصايتهم على المجتمع، وصادروا حق الاغلبية في التعبير عن اختيارها.

ان المرجعية الإسلامية التي تعرضت للتجريح والغمز، هي التي حفظت لغير المسلمين اقدارهم، بل امنت وجودهم واستمرارهم على مدار التاريخ. كان ذلك منذ قررت النصوص القرآنية حق الكرامة لكل بني آدم بصرف النظر عن اديانهم أو اجناسهم، واعتبر ذلك من حقوق الله، التي استند اليها الفقهاء والمفتون في معارضة جور بعض الحكام بحق غير المسلمين. ولولا ضيق المساحة لأوردت نماذج من الفتاوى التي صدرت في هذا الشأن. ولولا الحياء لنصحت الذين يدبجون المقالات في مديح اختراع الغربيين لفكرة ldquo;المواطنةrdquo; أن يراجعوا ما سجلته في هذا الصدد، في كتابي الذي صدر قبل عشرين عاما تحت عنوان ldquo;مواطنون لا ذميونrdquo;.

وحين قررت المرجعية الإسلامية حق الآخرين في الكرامة، فإنها ضمنت لهم حق الاختلاف، كما حصنتهم ضد أي مساس او عدوان. وكان ذلك هو السبب في أن عالم الإسلام حفل بما لا حصر له من الملل والنحل والمعتقدات. وفي كتاب ldquo;حاضر العالم الإسلاميrdquo; نقل الامير شكيب ارسلان حوارا بهذا المعنى بين احد الوزراء العثمانيين ومسؤول أوروبي، قال فيه الوزير العثماني إن قرونا مرت بنا كنا قادرين فيها على الا نبقي بين اظهرنا إلا من اقر بالشهادتين، وان نجعل بلداننا صافية للإسلام، فما هجس في ضمائرنا خاطر كهذا اصلا.. ولذا بقي بين اظهرنا حتى ابعد القرى واصغرها نصارى ويهود وصابئة وسامرة ومجوس. وظل لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. أما انتم يا معشر الأوروبيين فلم تطيقوا بين اظهركم مسلما واحدا، واشترطتم عليه إن اراد البقاء ان يتنصر، كما حدث في اسبانيا وجنوب فرنسا وشمال ايطاليا وجنوبها.. وما زلتم تستأصلون منهم حتى لم يبق في جميع هذه البلدان شخص واحد يدين بالإسلام.

إننا بحاجة لأن نجري جردا هادئا لما اسفرت عنه المناقشات التي جرت بمناسبة التعديلات الدستورية، خصوصا تأثيرها في نسيج العلاقة بين الجماعة الوطنية في مصر. حيث ازعم أن ذلك النسيج اصابه قدر من التشوه، من جراء التعبئة المضادة وعمليات الشحن والتسميم التي قادها نفر من المثقفين الذين استخدموا الملف القبطي والهواجس التي احاطت به في محاولة تجريح موقف التعاليم واضعاف الهوية الإسلامية للمجتمع. ولئن فشلت تلك المحاولة حقا، إلا انني لا استطيع أن اقطع بأنها لم تحدث اثرها السلبي في الدوائر القبطية، الذى يحتاج إلى أجل طويل لعلاجه ربنا لا تؤاخذنا بما كتب السفهاء منا.