خطاب سياسي غير متجانس وحديث عن الآثار السلبية للنشاط الصهيوني علي اليهود التونسيين
دعوات للحشد والتعبئة بكل اشكالها. وتشجيع مستمر لدولة علمانية فلسطينية


الهادي المثلوثي


تاريخ الكفاح الفلسطيني جزء لا يتجزأ من تاريخ تونس حيث لم يكن موقف الشعب التونسي وقواها الوطنية من التطبيع ومقاومة الصهيونية مسألة حديثة أو ظرفية بل يعود هذا الموقف إلي العلاقة المتجذرة في وجدان وتفكير التونسيين منذ مطلع القرن الماضي حيث ارتبطت القضية الفلسطينية بقضية تحرر تونس من الاستعمار الفرنسي.
ويبرز ذلك جليا من خلال بعض الكتابات ومنها كتاب جديد صدر أواخر سنة 2006 للدكتور عبد اللطيف الحناشي، مدرس التاريخ المعاصر بجامعة منوبة، تحت عنوان: تطور الخطاب السياسي في تونس إزاء القضية الفلسطينية (1920 ـ 1955) .

للكتاب أهمية كبيرة لكونه عملا أكاديميا محكم التوثيق والتحليل والتمحيص باعتماد وثائق الأرشيف التونسي والأرشيف الفرنسي ومختلف الكتابات الصحافية وأدبيات المنظمات الأهلية التونسية وكم هائل من المصادر والمراجع المختلفة علاوة علي شهادات حية لبعض الشخصيات الوطنية التونسية المناصرة للشعب الفلسطيني الأمر الذي مكن الباحث من إبراز مكانة وحضور القضية الفلسطينية في الرأي التونسي الشعبي والسياسي رغم القبضة الأمنية المشددة لإدارة الاحتلال الفرنسي آنذاك. يعد الكتاب إضافة قيمة للمكتبة التونسية والعربية عموما. وقد ورد في بابين وسبعة فصول علي النحو التالي:
الباب الأول غطي الفترة الممتدة بين 1920 ـ 1939 وتضمّن أربعة فصول:

1- الفصل الأول رصد وتفكيك العوامل التي ساهمت في تأخر إدراك الخطــــاب السياسي في تونس للقضية الفلسطينية والايديولوجية الصهيونية.
2- الفصل الثاني اهتم بتطور السياسة البريطانيّة بفلسطين والنّشاط الصّهيوني بها وموقف الخطاب السياسي من تلك السياسة ومدي خطورة النشاط الصهيوني علي مستقبل فلسطين.
3- الفصل الثالث تفكيك رؤية الخطاب لمختلف مظاهر المقاومة الفلسطينية للاحتلال البريطاني وللمشاريع الصهيونية في فلسطين.
4- الفصل الرابع وأبرز موقف الخطاب من مشاريع التسوية السياسية التي طرحتها الإدارة البريطانية والبدائل التي طرحها الخطاب كحلول عملية لتلك القضية..

أمّا الباب الثاني فقد غطّي الفترة الممتدة بين 1945 ـ 1955 وتضمن ثلاثة فصول:

1- الفصل الأول رؤية الخطاب السياسي قبل قرار التقسيم وموقفه من قرار الأمم المتحدة حول تقسيم فلسطين.
2- الفصل الثاني حلل فهم الخطاب للحرب العربية الإسرائيلية الأولي وتداعياتها ورؤيته لأسباب الهزيمة والطرق والبدائل لتجاوزها.
3- الفصل الثالث بحث تطور الخطاب للقضية الفلسطينية والقضايا المرتبطة.

سعي فيها الباحث إلي المساهمة في رصد مكوّنات التفكير السّياسي في تونس، تجاه القضية الفلسطينية. ولتعميم الفائدة سأحاول تقديم ملخص وجيز لهذا الكتاب.
لا شكّ أن عملية تحديد تطور الخطاب السياسي في تونس بمختلف مكوناته وأنساقه وآلياته إزاء القضية الفلسطينية، تتطلب تمحيصا وتدقيقا للوثائق والمصادر المتنوعة التي تمسح كامل الفترة المدروسة والتي عبرت عن مواقف ورؤي الأحزاب والشخصيات السّياسية التونسيّة و انطباعات السكّان التونسيّين ومواقفهم وانشغالهم بالقضية الفلسطينيّة بالإضافة إلي مواقف وآراء الكتاب اليهود والصهاينة حول تطور الحركة الصهيونية بالبلاد التونسية وموقــــف التونسيين من الصهيونية.

تبدو دراسة تلك القضايا ذات ضرورة ملحّة لرصد حجم اهتمام الخطاب السياسي في تونس للقضية الفلسطينية وكيفيّة إدراكه لطبيعتها وخصوصيتها ودرجة انشغاله بقضية تبدو في الظاهر قضية ثانوية بالنسبة لحركة تحرر وطني ذات أهداف وطنية محددة لكنها في المقابل شكّلت محور اهتمام قطاعات واسعة من الكتابات التونسية السياسية الحزبية والمستقلة وغيرها.. كما أن تحليل هذا الخطاب قد يساعد علي معرفة مستوي إدراك النخب بمستجدات العلاقات الدولية وكيفية فهمها وتعاملها مع الأزمات الدولية عامة وذات العلاقة بفلسطين خاصة.. ويمكن من خلال تحليل هذا الخطاب أيضا، تحديد درجة مساهمة القضية الفلسطينية في تعميق الوعي الوطني والعروبي بالبلاد التونسية في فترة الاحتلال وحدود ذلك خاصة بعد أن تم تحليل مظاهر ذلك التفاعل علي مستوي النشاط وإجراء بعض المقارنات بين رؤية الخطاب السياسي في تونس تجاه القضية الفلسطينية والقضايا المرتبطة بها والخطاب العربي السائد حول تلك القضايا، وخاصة الفلسطيني منه.

اهتمام قديم.. منذ العشرينيات

يعود اهتمام التونسيّين بالقضيّة الفلسطينيّة إلي أمد بعيد وخاصة منذ أواسط العشرينيات ثم تكثّف الأمر وأخذ يصل إلي درجات عليا منذ الثلاثينيات ولم يمنع الاهتمام بالقضايا الوطنيّة من الاهتمام بالقضيّة الفلسطينيّة. فقد شكّلت تلك القضيّة إحدي أهم شواغل التونسيّين في اغلب مراحل تطوّرها ومثلت أهم محاور الاختلاف والمزايدة السّياسية بين مناضلي الحركة الوطنية التونسية وحتي داخل الحزب الواحد.. وكانت مادة أساسية لأهم الصحف الوطنية التونسيّة في أغلب الأحيان.

نشأت القضيّة الفلسطينيّة منذ تبلور المشروع الصّهيوني أي منذ انعقاد المؤتمر الصّهيوني العالمي الأول سنة 1897 وهي بالأساس قضية سياسيّة، اتخذت أبعادا أخري بعد ذلك التاريخ وتحوّلت شيئا فشيئا إلي قضية تحرّر وطني إذ تميّزت عن بقية الحركات التحرّرية في العالم بمواجهة استعمار مزدوج ذي طبيعة مختلفة، فهو استعمار قديم متمثّل في الانتداب البريطاني المتحالف مع الحركة الصّهيونيّة من ناحية، والمشروع الصّهيوني ذي المنزع العنصري الاستيطاني الاستئصالي المتكئ علي الجماعات اليهودية الوظيفية المنتشرة في أنحاء العالم من ناحية أخري..
تمكّنت الحركة الصّهيونيّة بفعل العديد من العوامل والظروف الموضوعية والذّاتية من تحقيق مشروعها السّياسي في ظرف وجيز بكلّ المقاييس (حوالي نصف قرن) ثم التوسّع علي حساب دول الجوار الفلسطيني واحتلال ما تبقي من الأراضي الفلسطينية وممارسة شتّي أنواع الإرهاب والقمع ضد الشعب الفلسطيني...

وقد ظلّت القضية الفلسطينية عالقة لم تتمكّن الإرادة الدولية من حلّها حتي في إطار الحدود الدّنيا التي استنبطها مجلس الأمن الدولي بعد حرب الأيام الستة، رغم التنازلات الهائلة التي قدّمتها الأطراف العربية، وبذلك تظلّ القضيّة الفلسطينيّة قضية راهنة لا تهم في الواقع الشّعب الفلسطيني وحده ولا العرب عامة بل هي قضيّة ذات أبعاد إنسانية ودولية. ومن تلك المنطلقات جميعا يظلّ الاهتمام بها متواصلا في جميع المجالات المعرفية عامّة وفي حقل المعرفة التاريخية خاصة وذلك بهدف مواكبة التطورات الجديدة التي عرفها هذا الحقل سواء علي المستوي المنهجي أو علي المستوي المعرفي بالتوازي مع توفّر وثائق أوليّة جديدة تم الإفراج عنها في بعض الدول ذات العلاقة المباشرة كالولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وخاصة الدولة الصّهيونيّة إذ استغل بعض المؤرّخين والباحثين في العلوم الاجتماعية تلك الوثائق لإعادة كتابة تاريخ الدولة الصّهيونية بعيدا عن الرّؤية الرسمية.

كما برزت بعض الدعوات العربيّة والفلسطينيّة تحديدا لكتابة تاريخيّة عربيّة للقضيّة الفلسطينيّة، وان كان الكاتب لا يدعي القيام بذلك أو الانخراط في تلك العملية الا أنه سعي للاستفادة من تلك الكتابات الجديدة، محاولا المساهمة في البحث من زاوية محددة وتحديدا الانكباب علي فهم تطوّر الخطاب السّياسي إزاء القضيّة الفلسطينيّة وذلك انطلاقا من مبدأ التراكم في البحث التاريخي.

اليهود التونسيون

أشار الكاتب إلي وجود أقليّة يهوديّة بالبلاد التونسيّة نشط بعضها في إطار الحركة الصّهيونيّة واصطدمت تطلّعاتها ببعض مشاعر التونسيّين العرب المسلمين، فكان الفضاء الجغرافي التونسي مجالا للنّقاش والصّدام بل وحتي المواجهة أحيانا بين التّونسيّين مسلمين من ناحية ويهود تونسيّين وغير تونسيّين مقيمين بالبلاد من جهة أخري، حول قضايا تتعلّق بفلسطين وبالصّهيونيّة الأمر الذي ولّد جدلا فكرياً وسياسياً حول قضايا مرتبطة بالقضية الفلسطينيّة والصّهيونية وبوضعية الأقليّة اليهوديّة بالبلاد و وطنيتها كما طرحت مسألة انتمائها للفضاء التونسي بأبعاده المتعدّدة علي خلفية نشاطاتها الصّهيونيّة وخاصة ولاءها وسعيها لتأسيس وطن بديل...وقد شكّلت كل تلك القضايا مادة ثرية تعبّر عن حيويّة الخطاب السّياسي في تونس وانفتاحه وفي نفس الوقت التزامه بقضية الشعب الفلسطيني.
وقد بين الكاتب ما أغفلته الكتابات الفلسطينيّة والعربيّة التي تناولت موضوع تفاعل العرب، شعوبا ومنظّمات وأحزابا وصحافة وحكومات، مع قضية فلسطين والتي ركزت علي بلاد الشام ومصر دون غيرها من المناطق، في الوقت الذي غيّبت فيه مسألة تفاعل المغرب العربي عامة والتونسيّين بالخصوص، مع تلك القضيّة ولذا جاء كتابه لبيان دورهم في مساندة نضال الفلسطينيّين خلال الفترة المدروسة علي الأقل.

ومن المسائل المهمة التي بينها الكاتب مسألة تحديد درجة مساهمة القضية الفلسطينية، بأبعادها المختلفة، في تعميق الوعي السياسي الوطني والعروبي بالبلاد التونسية في فترة الاحتلال رغم خضوع الخطاب السياسي خلال الفترة المدروسة إلي رقابة مزدوجة: تتمثّل الرقابة الأولي في ما تمارسه الإدارة الاستعمارية من ضغوط مباشرة، أمّا النوع الثاني فهو الرقابة الذاتية خوفا من مقصّ الرقابة أو من الإجراءات الزّجرية.
وعليه تميز الخطاب السّياسي في تونس إزاء القضية الفلسطينية بعدم التجانس. ومع ذلك فقد وجدت عدة كتابات منها التي اهتمت مباشرة بدراسة نشاط التونسيين لصالح القضية الفلسطينية وكانت في شكل رسائل جامعية أساسا وبعض المقــــالات ومنها التي اختصت بدراسة نشـــــاط الحركة الصّهيونيّة في تونس وموقف القوي السياسية من ذلك النّشاط.
ما يثير الانتباه أن النشاط الصهيوني بالبلاد التونسية كان له تأثير سلبي علي الجالية اليهودية ما جعل تفاعل اليهود التونسيين مع القضايا الوطنية محدودا إن لم يكن منعدما كما كان انخراطهم في المنظمات والأحزاب الوطنية التونسية نادرا جدا أو يكاد.

وقد أدي هذا الأمر إلي اصطدام إرادتين، إرادة وطنية تونسية لا تفرّق بين التونسي سواء أكان مسلما أو يهوديا وبين الحركة الصّهيونية التي عملت علي دفع اليهود التونسيين إلي الهجرة إلي فلسطين لدعم المشروع الصهيوني.

وقد تصدّي الخطاب السياسي في تونس للخطاب الصهيوني وفكّك مرتكزاته وبيّن طبيعته الاستعمارية العنصرية وعبّأ الناس علي هــــــذا الأساس بهدف مواجهة نشاطات الحركة الصهيونية الســــــياسية والمالية بالبلاد التونسية التي تخدم موضوعيا المشروع الصهيوني علي حـــــساب الشعب الفلسطيني.
تعددت مظاهر دعم التونسيين للقضية الفلسطينية ومساندتهم للشعب الفلسطيني منذ منتصف الثلاثينيات وكان ذلك نتيجة لتنامي الوعي السياسي المحلّي ومزيد اهتمام الرأي العام الوطني بالقضايا الدولية والعربية واقتناعه بعمق تأثيرها في المسألة الوطنية ذاتها. بل لربما راهن الوطنيون التونسيون والشبيبة المثقفة علي جعل المسألة بمثابة الدربة لتوعية الناشئة.
وكان هذا الدعم غير مشروط سياسيا، فقد كان تحت شعار عدم التدخل في الشؤون الفلسطينية واحترام اختيارات القيادة والاكتفاء بالمعاضدة والمؤازرة ماديا وادبيا.

اشكال التضامن

ومن المهم الإشارة إلي أن أشكال تضامن التونسيين في هذه المرحلة لم تصل إلي صيغ أرقي كتسيير المظاهرات أو اقامة التجمعات الجماهيرية أو المشاركة في القتال إلي جانب الفلسطينيين إلا بشكل محدود جدا. وقد تميّز محتوي الخطاب التضامني في تونس، تجاه القضية الفلسطينية، بالتّجانس النسبي وخاصة تجاه القضايا المحورية.
ويمكن الزعم أن المخاض الذي عاشه الخطاب السياسي في تونس بخصوص القضية الفلسطينية كان له الأثر الفاعل في بلورة الرأي العام المحلي وتطوره وتعميقه بشأن قضاياه الداخلية وهو أمر تعاظم أيضا تباعا بفعل المنافسة الداخلية فيما بين كتلتي حزب الدستور (الخط العروبي والخط الفرانكفوني).

..كما ازدادت مبادرات تضامن التونسيين مع الشعب الفلسطيني وتعددت أشكالها وعبّرت عن الارتباط العميق بين الشعبين ومعاناتهما المشتركة برغم اختلاف طبيعة الحالة الاستعمارية في كلا البلدين.
ولا شكّ أن ذلك التفاعل قد سمح بإجراء المقارنة بين ما يحدث هناك وما يحدث هنا.. وهو ما يشكّل في حدّ ذاته تثقيفا سياسيا غير مباشر وتحريضا مقنعا أو ضمنيا لمقاومة الاستعمار الفرنسي بالبلاد وتجذير الحسّ الوطني والنضالي في ظروف سياسية لا تسمح بحرية التعبير والرأي.

لقد انشغل الخطاب، برغم المصاعب، بقضايا جوهرية تهم المشروع الصّهيوني في فلسطين وبأبعاده وانعكاساته المختلفة ليس علي الفلسطينيين فقط ولكن وبنفس الدرجة علي العرب جميعا وخاصة الدول المحيطة بفلسطين وارتباط ذاك المشروع عضويا بالمشروع الاستعماري عامة والبريطاني خاصة.
وقد تطور تفاعل الخطاب بالقضية الفلسطينية إلي درجة طرح تصورات محدّدة للمقاومة: فرغم عدم تفضيل الخطاب لأسلوب نضالي علي آخر، إلا انه أكد علي ضرورة استخدام كل الوسائل المتاحة التي تتماشي وظروف الفلسطينيين والظروف الدولية عامة.

وتبرز فرادة الخطاب السياسي في تونس، في تلك المرحلة، في ما قدّمه من رؤي وبدائل عملية لحلّ القضية الفلسطينية و اليهودية ، ففي الوقت الذي أدان فيه الحركة الصّهيونيّة ورفض قيام الدولة الصّهيونيّة طرح مشروع الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية التي يعيش فيها الفلسطينيون واليهود كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.

غيّب الخطاب تحليل مسؤولية القوي الكبري في ما وصل إليه وضع الشعب الفلسطيني وخاصة دورها في إصدار قرار التقسيم وتحديدا دور الولايات المتحدة الأمريكية الذي تنامي بعد الحرب العالمية الثانية والذي كان حاسما في مساندة قيام اسرائيل وجرّ العديد من الدول الصغري للقبول بالقرار. ولكن لم يستسلم الخطاب السياسي في تونس للكارثة التي حلّت بالعرب بل لوحظ رفضه لها وطرحه بدائل عملية، فقد تناول الخطاب السياسي التونسي الأسباب العميقة التي أدت إلي الهزيمة سنتي 1947ـ 1948 وقد أكد علي عدة قضايا ذات أهمية بالغة كغياب الممارسة الديمقراطية وسيادة أنظمة الاستبداد السياسي والتأخر الاقتصادي والاجتماعي. ولكنه في المقابل لم يستسلم للهزيمة بل رفضها وطرح عدة بدائل عملية لتجاوزها كتحقيق الوحدة السياسية بشكلها الفدرالي ودعوة الأحزاب لتنسيق عملها بهذا الاتجاه.

رغم أن الحركة الصهيونية ما انفكت تطرح نفسها، بإمكانيتها، كطرف في الصراع وعرضت خدماتها علي الحركة الوطنية التونسية مقابل أن تقوم هذه الأخيرة بدفع الدول العربية للاعتراف بها وقد وجدت في بورقيبة السياسي المتفهم للمسألة اليهودية مع أن الخطاب التونسي الوطني قد انغمس في الهمّ الفلسطيني وكان يري في الحرب العربية الإسرائيلية الأولي البديل الأكثر نجاعة لتحقيق المطالب الفلسطينية المشروعة غير أن الهزيمة التي مني بها العرب وانتصار الحركة الصّهيونيّة وحلفائها شكلت صدمة كبيرة لهذا الخطاب.

ساهم الخطاب في تشريح الأسباب المختلفة التي أدت إلي النكبة بكل جرأة وروح نقدية، وقد حاول في الوقت ذاته تقديم بعض البدائل العملية الكفيلة بتجاوز مخلفات النكبة . وكان لتطور الأحداث في فلسطين وبلدان الجوار العربية والتحولات العالمية أن دفعت بهذا الخطاب إلي مراجعة تصوراته وحتي تحالفاته في الداخل والخارج وكان من نتائج ذلك تراجع اهتمام الخطاب بالقضية الفلسطينية والقضايا المرتبطة بها الي درجة دنيا بل غيّبت القضية تماما من الأدبيات التونسية أو تكاد.. ومقابل ذلك برز اتجاه قويّ يعمل علي استثمار الواقع العالمي الجديد والاقتراب أكثر فأكثر من الحركة الصهيونية ودولة اسرائيل وذلك في محاولة منه لفكّ الارتباط القائم بين الحركة الصهيونية وبعض اليهود التونسيين وفرنسا، التي حاولت خلق مشكل يهودي في البلاد بغية تأليب الرأي العام الدولي والحركة الصّهيونيّة العالمية ضد الحركة الوطنية التونسية وإبرازها بصفتها حركة تعصّب ديني وذلك بهدف عزلها وتهميشها. وبالنتيجة بدأت الاتصالات مع الحركة الصهيونية العالمية وبعض ممثلي الدولة الصهيونية في إطار مساومات سياسية تخدم مصالح الطرفين. ويظهر أن الطرف التونسي قد غلّب مصلحة القضية الوطنية علي القضايا المبدئية والقومية والإنسانية ومنها القضية الفلسطينية إذ عبّر بعض القادة الدستوريين عن استعداد حكومة الاستقلال التي سيقودها بورقيبة للقيام بدور عرّاب العلاقات العربية الإسرائيلية.

وقد تفاعل الخطاب السياسي في تونس أيضا مع جميع الأحداث والتطورات التي عرفتها القضية الفلسطينية بعد الحرب العالمية الثانية ورفض جميع المبادرات التي طرحت لحلها وراهن علي الحرب التي رأي فيها حلا وحيدا وخلاصا نهائيّا لمأساة الفلسطينيين وعبّأ الناس علي هذا الأساس، إلا أن هزيمة الدول العربية دفعت الخطاب لمراجعة البعض من المسلمات ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية انطلاقا من بحثه عن أسباب الهزيمة، وطرح بدائل عملية لتجاوزها غير أن الخيبة قد تعمّقت. فأخذت مساحة اهتمام الخطاب بالقضية الفلسطينية تتقلص لكون الخطاب علي وعي بالمتغيّرات الدولية والظرفية العالمية الجديدة فحاول الاستفادة منها وتوظيفها لصالح القضية الوطنية التونسية التي أصبحت تحتل صدارة تفكيره ونشاطه.

لقد تناول الكتاب مسألة معقدة ومشوقة تفاعل فيها البعد الوطني التونسي والبعد القومي والإسلامي. الأمر يغري القارئ ويشد انتباهه. ويعتبر الكتاب إضافة قيمة بكشف الكثير من المواقف التي عاشها الشعب التونسي وكادت مواقف بورقيبة الواقعية الاستسلامية تطمسها إلا أن إرادة الشعوب أقوي من السياسات الملتوية والروابط القومية والإنسانية فوق الحدود.