فؤاد مطر


بعد الرسالة السرية التي بعثت بها الإدارة الأميركية إلى الحكومة الإيرانية تحتج فيها بسبب تزويدها ميليشيات عراقية بمتفجرات تخترق الدروع متهمة laquo;فيلق القدسraquo; التابع لـlaquo;الحرس الثوريraquo; وlaquo;حزب اللهraquo; بتدريب عراقيين في إيران، جاءت واقعة احتجاز إيران لعناصر البحرية البريطانية الخمسة عشر بينهم جندية بتهمة دخول المياه الإقليمية. وبدأت حكومة بلير حملة تجمع بين الدبلوماسية والتحذير تستهدف استعادة البحارة، ثم ما لبث الأمر أن تطور وحملت الأنباء بعض التفاصيل عن مناورات عسكرية أميركية هي الأوسع قرب المياه الإيرانية في الخليج شاركت فيها للمرة الأولى مجموعات من حاملتي الطائرات laquo;سيتينسraquo; وlaquo;ايزنهاورraquo;. كما حملت الأنباء معلومات استخبارية روسية حول تحضيرات اميركية لشن عملية برية وجوية ضد إيران بهدف تركيعها وخلخلة مؤسسات الحكم فيها وبأدنى حد من الخسائر. وكانت سبقت هذه المعلومات بأيام قليلة معلومات تصب في الإطار نفسه وتفيد بأن العملية المشار اليها ستحدث يوم السادس من ابريل (نيسان) الجاري، وبحيث تبدأ في الرابعة فجراً وتنتهي في الرابعة عصراً.

في ضوء ذلك يجد المرء مثل حالنا نفسه يتساءل:

هل ان احتجاز إيران للبحارة البريطانيين هو مثل احتجاز السلطات العراقية في مارس (آذار) 1990 للصحافي الإيراني فرزاد رباطي بازوفت، الذي يحمل وثيقة سفر بريطانية؟

وهل ان السلطات الإيرانية ستكتفي بالنسبة إلى موضوع البحارة باستجوابهم ثم إصدار أحكام عليهم بتهمة دخول المياه الإقليمية تراوح بين السجن، إذا اعتبرت المحكمة هذا الدخول غير متعمَّد، او ما هو اكثر من السجن بكثير، اذا اعتبرت دخولهم كان بغرض التجسس؟

وهل ان laquo;الدخول الخطأraquo; من جانب البحارة البريطانيين المياه الإقليمية الإيرانية كان فخاً، الغرض منه وقبل ساعات من اجتماع مجلس الأمن واصداره بالإجماع قرار تصعيد العقوبات على إيران، إلباس اهل الحكم الإيراني تهمة الإساءة المتعمَّدة إلى المجتمع الدولي، وذلك برفضها الخطأ البسيط وتحويله الى فِعْل اهانة للدولة الكبرى بريطانيا؟

وهل إن المسألة هي نوع من الرد على الواقعة الغامضة المتعلقة بالجنرال علي رضا عسكري مساعد وزير الدفاع الإيراني السابق الذي اختفى يوم 7 فبراير (شباط) 2007 وقيل إنه إما اختُطف من مكان إقامته في تركيا، وإما لجأ بمحض إرادته إلى الغرب (بريطانيا أو أميركا). كما وُصفت الواقعة بأنها بالغة الأهمية كون الجنرال علي رضا كان من الشخصيات الأمنية الفاعلة في الحكم الإيراني، ويملك المعلومات الدقيقة عن laquo;حزب اللهraquo; وكان مشاركاً في تأسيسه في لبنان ودول أخرى، كما يملك معلومات حول السلاح لدى الحزب وغيره وطرق إيصاله، الأمر الذي من شأنه إرباك مؤسسة الحكم الإيرانية في حال أفضى إلى خاطفيه أو الذين لجأ، أو الجأوه إليهم، بما يملكه من المعلومات والخرائط والأسماء والخطط ونقاط الضعف والقوة والشفرات في الجيش الإيراني والمؤسسات الأمنية المتعددة وأبرزها laquo;الحرس الثوريraquo;. وبعدما أشارت مصادر رسمية إيرانية الى ان الجنرال اختُطف ولم يلجأ وانه يتعرض للتعذيب على أيدي استخبارات غربية في إحدى الدول الأوروبية من اجل تقديم معلومات، سكتت تلك المصادر وبقيت الواقعة لغزاً، ثم جاءت حادثة البحارة البريطانيين الخمسة عشر والمناورات الاميركية الأوسع والمعلومات الاستخبارية الروسية تشكل في بعض نقاطها محاولة لفك هذا اللغز.

ولا بد بعدما أوردنا التساؤلات ذات الطابع الافتراضي من استحضار واقعة بازوفت لمعرفة ما اذا كانت مثل التاريخ الذي يعيد نفسه، وأيضا ما إذا كانت إيران لن تقع في الخطأ نفسه الذي وقع فيه الرئيس صدَّام حسين عندما استهان بالموقف الدولي الذي كان مؤازِراً لرئيسة الحكومة البريطانية مارغريت تاتشر في حملتها التي تستهدف انقاذ بازوفت من الإعدام بعدما أدين بالتجسس من قِبَل محكمة عراقية. ومن مظاهر تلك الاستهانة تصديق صدَّام على الحكم وإعدام بازوفت وفي اعتقاده أن ازدواجية جنسيته حيث انه بريطاني من اصل إيراني لن تجعل تاتشر تتمسك به على النحو الذي لاحظناه فيها منذ لحظة اعتقال الرجل، ومن دون ان يستوقفه أن بازوفت ربما كان طُعماً، عن عمد او بالصدفة، لكي يتورط العراق الصدَّامي في إعدامه ويكون هذا القصاص مناسبة لتحريك جمعيات حقوق الإنسان لإدانة عملية الإعدام التي تمت مع ان التريث، كما الحال مع الممرضة البريطانية شريكة بازوفت، كان أفضل، وكان أيضا تسليم الرجل إلى الأمم المتحدة سيبدو كمؤشر إلى حُسن النية والتفهم.

ومن دلالات عدم التنبه وربما عدم الاكتراث من جانب صدَّام بالتداعيات التي قد تنشأ انه اعتبر إعدام بازوفت الذي يعمل في صحيفة laquo;الاوبزيرفرraquo; وكان زار العراق سبع مرات خلال الحرب مع إيران قبل ضبطه متلبساً مع ممرضة بريطانية تعمل في مستشفى laquo;ابن البيطارraquo;، إنجازا وتمثَّل ذلك بقوله يوم الاثنين 2 ابريل (نيسان) 1990 في كلمة اتسمت بالسخرية تلت تقليد الأوسمة والسيوف إلى كبار القادة العسكريين في الحرب مع إيران، إضافة إلى صهره حسين كامل رئيس هيئة التصنيع العسكري ووزير الدفاع الفريق أول ركن عبد الجبار شنشل laquo;يبدو أن حقوق الإنسان هي للجواسيس وليست للشعب الفلسطيني أو العالِم الاميركي بول (الذي كان يتعامل مع العراق في التصنيع العسكري واغتيل في بروكسل بمسدس كاتم للصوت، من دون ان تتحرك الاستخبارات الاميركية لكشف الحقيقة). انهم يجعلون من شعار حقوق الإنسان شعاراً للامبريالية الجديدة ووسيلة للتدخل في الشؤون الداخلية للغير...raquo;. ومثل هذه المفردات نسمعها بين الحي والآخر من نجم مشاكسة أميركا والغرب عموماً الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد الذي يصعب الجزم بما إذا كانت واقعة البحارة البريطانيين ورقة لمصلحة موقفه، أو إنها مثل واقعة ابن بلده بازوفت الذي كان إعدامه من جملة أعواد الكبريت التي رماها المجتمع الدولي بقيادة أميركا وبريطانيا على العراق الصدَّامي فكان الحريق الذي ما زال مشتعلاً للسنة السابعة عشرة على التوالي.

واذا كانت بريطانيا لم تتأثر إنسانيا في موضوع بازوفت وكان الذي يعنيها فقط منه انه يحمل وثيقة سفر بريطانية وانه مجرد طُعم كفيل بجعل السمكة الخليجية الكبيرة، أي العراق، تسقط بفعل هذا الطُعم، فإن الأمر يختلف بالنسبة الى البحارة الخمسة عشر الانكليز الأصليين وبالذات لأن بينهم امرأة تعمدَّ الإيرانيون في إطار الحرب النفسية إظهارها على شاشة التلفزيون تعترف وتناشد. وترى حكومة بلير ان حالة هؤلاء البحارة تشكل إهانة لها أين منها تلك الإهانة التي لحقت بهيبة بريطانيا من عيدي امين في العاصمة الأوغندية كمبالا وتلك التي لحقت بأميركا عند حصار سفارتها في طهران.

ونميل إلى بعض الظن الذي ليس إثماً بأن laquo;الرئيس الصيادraquo; محمود احمدي نجاد سيعذب السمعة البريطانية مستغلاً حالة رئيس الحكومة طوني بلير التي لا يُحسد عليها، ويكون التعذيب على نحو استعذاب القطة لتعذيب الفأرة قبل أن تتركها متلاشية، ذلك أن القرار العقابي الصادر عن مجلس الأمن وبالإجماع جعل الاندفاع النجادي يصطدم بحفرة تعيق التحرك وتُعطِّل التطلعات الطموحة التي يستهدف منها الثنائي خامنئي ـ نجاد التأكيد بأنه لم يخطئ حين بذل السعي الحثيث من اجل البرنامج النووي. وبالعودة إلى ما بعد واقعة بازوفت في زمن صدَّام يمكن من خلال بعض التأمل في رد فعل طوني بلير الذي جمَّد العلاقات مع إيران عدا قناة الاتصال الدبلوماسية في شأن واقعة البحارة، افتراض ما يمكن ان يحدث مستقبلاً في مياه الخليج وعلى ضفافه.. وفي أعماق الأعماق.

وتبقى الإشارة إلى أن حكاية laquo;جريمةraquo; دخول قوارب بريطانية المياه الإقليمية لا تختلف في شيء عن حكاية تدخُّل إيران في بحار السيادات الإقليمية للعراق ولبنان وفلسطين، وحيث تستطيع وهو تدخُّل مبغوض.. ودون سيئات احتلال بريطانيا إلى جانب أميركا للعراق. ومِنْ هنا فإن احتجاز بحارة طوني بلير ليس جريمة لا تُغتفر ما دام هو وحليفه بوش الابن يعتبران احتلال العراق وعدم إحقاق الحق الفلسطيني، وقبل ذلك ترك قطعان ايهود اولمرت تُمعن تدميراً في البنية التحتية والفوقية اللبنانية على رغم مناشدة القريب والبعيد الضغط على إسرائيل لوقف العدوان من المسائل البسيطة.. التي فيها نظر.