الجمعة 13 أبريل 2007
د. رغيد الصلح
عندما يطعن البعض بالعرب، ويسعى الى تشويه صورتهم فإنه يجتهد في اقناع الشعوب الاخرى، وخاصة في الدول الديمقراطية، ان الديمقراطية غريبة عن العرب، وان العرب غرباء عن الديمقراطية وان هذه الغربة تحكم العلاقة بين الطرفين في كل زمان ومكان. وانه استطرادا ليس من المستطاع دمقرطة المنطقة العربية من الداخل وانما عبر تصديرها اليها من الخارج. هذا ما فعلته ادارة الرئيس الأمريكي جورج بوش بعد ان غزت القوات الأمريكية العراق قبل اربع سنوات وعجزت عن العثور على أسلحة الدمار الشامل. استعار بوش هذه الحجة من مرشده الفكري الوزير ldquo;الاسرائيليrdquo; ناتان شرانسكي الذي قال في محاضرة القاها قبل سنتين تقريبا في جامعة فيينا ldquo;ان الديمقراطية تتعارض مع عادات وثقافات وذهنية الفلسطينيين والعربrdquo;.
وعندما يطعن البعض بالديمقراطية ويسعى إلى تأليب الرأي العام العربي ضدها والى اقناعه بان النظم المطلقة هي الأكثر انسجاما مع تقاليد العرب وتاريخهم ومصالحهم، فإنه يستنجد بالحجة الوطنية ويؤكد ان الديمقراطية مستوردة من الخارج. والمقصود بالخارج هنا هو ليس الدول والمجتمعات والثقافات الأجنبية فحسب، وإنما الدول الامبريالية القديمة والحديثة التي تناصر ldquo;إسرائيلrdquo; وترسل جيوشها لاحتلال الاراضي العربية وتنتهك من دون خجل المصالح العربية المشروعة. وهكذا نقرأ نقدا صارما في صحيفة صادرة بالعربية لأحد الكتب الدينية لأن كاتبه خصصه لبحث العلاقة بين الإسلام والديمقراطية وللتأكيد على انه لا تعارض بينهما. كذلك نقرأ نقدا مماثلا لكتابات وكتب اخرى تؤكد العلاقة الحثيثة بين الفكر القومي والفكر الديمقراطي والصلة القوية بين النضالات الديمقراطية والنضالات الوطنية والقومية في تاريخ الشعوب والامم.
وعندما يريد البعض بيننا أن يتملق الغرب وأن يسترضي المتعصبين فيه والمصابين بالارابوفوبيا طمعاً في مكسب شخصي، فإنه يسرف في الحديث عن دور الغرب وجيوشه في دمقرطة المنطقة العربية ونشر المبادئ الديمقراطية فيها. هذا ما قرأناه في أحاديث بعض السياسيين اللبنانيين الذين شهدوا بمآثر الغرب في هذا المضمار بدءاً بالاغريق والرومان الذين فتحوا الاراضي اللبنانية والعربية ومرورا بجيوش الجنرال غورو ووصولا الى قوات الاحتلال في العراق.
هذا النوع من الأقوال والآراء الذي يكشف الثقوب المعرفية في ذهن اصحابه بات يخضع لمحاكمات واسعة في الاوساط الفكرية والسياسية العالمية. ومن المحاكمات المهمة على هذا الصعيد، كتاب بعنوان ldquo;سرقة التاريخrdquo; الذي وضعه جاك غودي الذي يدرس في جامعة كامبردج البريطانية والذي يعتبر واحداً من أهم أساتذة العلوم الانتروبولوجية في العالم. ويكرس البروفسور غودي كتابه لمناقشة الروايات المتداولة حول دور الغرب الحضاري عبر التاريخ، والتي تعظم من شأنهم ومن شأن انجازاتهم، وتحط من شأن الامم والشعوب الاخرى. ويذهب غودي الى حد اتهام الغرب وخاصة علماء الاجتماع والمفكرين والمؤرخين المصابين ldquo;بالاوروسنتريةrdquo; (اي الذين يعتبرون ان اوروبا كانت ولا تزال محور العالم ومركز حضارته) بالسطو على هذه الامم وعلى منجزاتها الحضارية مثل المؤسسات والقيم والمشاعر الانسانية والفنون والعلوم والتكنولوجيا. كما يتهمهم ايضا باختلاف تاريخ وفكر ينسب كل تخلف وبداوة وشر الى الامم والشعوب غير الغربية.
ومن القضايا التي تستأثر باهتمام غودي بصورة خاصة قضية منبت الديمقراطية وحاضنة تطورها في العصور القديمة. ففي الروايات الشائعة التي تتداولها الاوساط العلمية والسياسية التي ينتقدها غودي ان اثينا هي مهد الديمقراطية في العالم وانها عرفت النموذج الاكمل لحكم الشعب عبر الديمقراطية المباشرة. وفي الروايات الشائعة ايضا ان روما تحولت الى حاضنة للديمقراطية حيث تطورت فيها المؤسسات التي تصلح للتطبيق في الكيانات الكبرى وليس في الدول-المدن فحسب.
يلاحظ غودي ان هذا التوصيف لدور الديمقراطيتين الاثينية والرومانية ما لبث ان تحول الى اساس للتمييز بين الغرب والشرق، بين ldquo;المتحضرين والبرابرةrdquo;، بين الآريين والساميين. هذا التمييز تحول بدوره الى خندق ضخم احتمى به العنصريون مثل النازيين-المعادين اساسا للديمقراطية- والامبرياليين والكولونياليين. ولكنه، في نظر غودي، وكذلك في نظر لفيف واسع ومتزايد من المؤرخين والانتروبولجيين المحدثين وrdquo;التحريفيينrdquo;، تمييز مبني على اساس هش ومنتحل.
فالديمقراطية ldquo;الاثينيةrdquo; لم تكن اثينية، كما ان الديمقراطية الرومانية، لم تكن رومانية. الديمقراطية المباشرة كانت مطبقة، كما يقول غودي، في اكثر المدن الفينيقية. وهذه المدن كانت مثلها مثل اثينا، اي عبارة عن دول مدينية. ويعزو بعض المؤرخين والمفكرين هذا التشابه بين العالمين الاغريقي والفينيقي-اي اللبناني راهنيا-الى البيئة التي تطورت فيها النظم السياسية في العالمين. فاراضي اليونان القديم مثل لبنان القديم تخللتها مياه المتوسط والانهار والجبال، ومدنهما كانت متناثرة على نحو منع قيام سلطة مركزية وقوية فيهما. وهذا العامل، اي صعوبة قيام سلطة مركزية في العالمين الفينيقي والهيليني حد من امكانية حكم قوي ومستبد. هذه الظاهرة لم تقتصر على المدن الفينيقية، بل كانت تطبع ايضا مدن بلاد ما بين النهرين اي العراق القديم حيث نشأت ldquo;ديمقراطيات بدائيةrdquo; وحيث نشأت جمهوريات مدينية.
واذا كان التاريخ قد حور بدافع الرغبة في سرقة الحاضر والمستقبل، كما تفعل قوات الاحتلال في الاراضي العربية، فإن المؤرخين اليونانيين انفسهم كانوا اكثر انصافا للشعوب التي كانت تعيش في شرق وجنوب المتوسط. ففي عام 146 قبل الميلاد، كتب بوليبيوس المؤرخ اليوناني انه ldquo;بينما كانت الاكثرية تسود في قرطاجة، كانت النخبة هي التي تقرر في روماrdquo;. ويضيف مؤرخو السامية انه بينما كانت النخبة الرومانية تحكم، كانت قرطاجة تقتدي بمدينة بصور فتختار حكامها عن طريق الانتخاب.
المقارنات التي يعقدها غودي والعديد من المؤرخين وعلماء الانتربولوجيا والمفكرين الأحرار في العالم حول منشأ الديمقراطية هي مجرد فصل من الفصول الكثيرة التي تدل على طابعها الإنساني، وعلى الدور المهم الذي لعبته شعوب جنوب وشرق المتوسط من اسلاف العرب في صنعها وتطويرها. انها مساهمة فكرية تجرد الامبرياليين الجدد والأحاديين والقوميين المتعصبين والصهاينة من الادعاءات الهشة. انها تنزع من الدول التي تمتلك القوة العسكرية الحق في احتلال الأراضي العربية بحجة أن العرب غرباء عن الديمقراطية وعن قيم الحرية والمساواة، وانهم بالتالي عاجزون عن دمقرطة بلادهم من الداخل وبأيد عربية
التعليقات