رشيد الخيُّون

في المشهد العراقي الكارثي، ليس الانتحاريون، من شراة الجنة مقابل قتل الأبرياء وتدمير الحياة، وحدهم يختصون بهذه التسمية. بل هناك انتحاريون من صنف آخر، حملوا توابيتهم على ظهورهم من أجل ابقاء شمعة الأمل متوقدة، يرجون بناء العراق وكشف الظلمة عن أجوائه. تراهم يتحدون القوى الكاسرة من تنظيمات الإرهاب والتخلف، ويجوبون المدن والقرى شاجبين ثقافة الكراهية.

صنفان يلتقيان بالمصير ويفترقان بالهدف، وشتان بين مهووس بتحطيم جسر، أو محطة مسافرين، أو سوق ملأى بالبشر، وبين مَنْ يغبش إلى عمله في السوق أو المدرسة أو الجامعة أو الجريدة، وهو يعلم أنه مرصود من قِبل غرابيب الموت. يخرج مع تكرار محاولات قتله وتغييبه، مرة بالقنص، وأخرى بالتفجير، وثالثة بالاختطاف، والأخيرة أكثر هولا. لقد أشار الكتاب إلى كليهما بقول سديد: laquo;مَن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاًraquo;.

وجدت العديد من شراة الحياة والأمل، رغم هيمنة ثقافة الموت وممارسته، في مؤتمر laquo;دعم الديمقراطيةraquo; المنعقد بأربيل (10ـ12 أبريل 2007). وجدت أُناساً من نوع آخر تقلقهم انهيارات الحياة أكثر من قلقهم على أرواحهم، لم يرتدوا الأكفان لزينة الهتاف، وإثارة العوام، وتكريس الزعامة، بل أرتدوها لأن الموت قتلا يترصدهم، ويحصي الأنفاس عليهم في بيوتهم.

تحدثت امرأة شابة، قدمت من الفرات الأوسط، أنها تلقت عشرات التهديدات بالموت من القوى الدينية المهيمنة بالمكان، لأنها نزلت إلى القرى لتوعية بنات جنسها بخطورة إلغاء قانون الأحوال الشخصية بالمادة (41) من الدستور الجديد. قالت: laquo;لم يبق أمامنا غير المواجهة بالقوة نفسها، هم يحملون السلاح ونحن نحمل كلمتنا، وحقيقة الدين معنا وليست معهم. إن تركناهم فسيجعلوننا جوار، فهم يوصوننا أن حُسن التبعل يوصل المرأة إلى درجة المجاهدين! ولو رضخنا سنخسر دنيانا ودينناraquo;. عندها قلت لها: أنت تقولين ما استشهد به ابن خلدون (ت 808 هـ) عند حديثه عن الإمامة: laquo;نُرقع دنيانا بتمزيق ديننا.. فلا ديننا يبقى ولا ما نُرقعraquo;! استحسنت الاستشهاد وطلبت تدوينه على صفحة كتاب كان بيدها.

نعم، من الحق أن نعد ذهاب الأستاذ الجامعي إلى كليته فعلا انتحاريا! وكذلك ذهاب الطبيب لفتح عيادته، وبلا شك لا يختلف الأمر مع الخباز والبقال وبائع الكتب. ولا يوصف الاعتراض على مجالس عاشوراء في الدوائر والطرقات، بهذه الكثافة وبهذه الصورة الشوهاء، إلا بالتهلكة. وليس الأدباء المتخلفون إلى ما بعد ساعة الغروب في اتحادهم إلا انتحاريين، لذا تفننوا وجعلوا أماسيهم صباحات أدبية على غير العادة. ومع ذلك طالهم تفجير شارع الكتب، وطالتهم اغتيالات. أما الصحافيون والإعلاميون فأمر انتحارييهم مشهور. وعلى العموم، أصبح الحلاق والخياط والموسيقي، من غير الملتزمين بشروط المحتسبين الجوالين، مشاريع نحر وانتحار!

قالت امرأة أخرى من الانتحاريات الحاضرات المؤتمر: laquo;لقد سرقوا منا الحلم! حتى باتت ذاكرتنا تتساهل مع ممارسات رهيبة، عانينا منها ما عانينا في ظل النظام السابق. نكاد ننسى فرقة السيافين، وهؤلاء كانت مهمتهم قطع الرقاب، وقد جرى تدريبهم برؤوس النساء، بتهمة الدعارةraquo;. ومعلوم كانت الرؤوس تُرمى أمام الأبواب داخل أكياس، يعرفها العراقيون بالجواني. وقيل كتب على دار واحدة من اللواتي رفضنَّ التواطؤ، عبارة: laquo;هذه الدار لعاهرة لتسقط الدعارة وتعيش الماجدة العراقيةraquo;! ومن الماجدات مَنْ أُعدمت وتُرك رضيعها عند السجينات، لا يعرفنَّ كيف يسكتنَّ بكائه المتواصل لليلتين! وأردفت قائلة: laquo;لقد أنستنا عصاباتهم ذلك الرعب برعب من نوع آخرraquo;.

وتحدثت أستاذة جامعية، انتحارية أيضاً، عن معاندتها لما يُصب في عقول طلبتها من ثقافة رثة، حتى اعترضت الجماعات الدينية (اتحادات طلابية) عليها، لأنها أولا لم تلتزم شروط ملبسهم، وثانياً نصحت بدراسة كتب من خارج المكتبة الدينية، فواجهوها بهويات مؤلفي تلك الكتب، ومع ذلك ما زالت معاندة لإرهابهم الفكري.

بطبيعة الحال، يحرص مَنْ عاش تلك التفاصيل بوعي وبرصد ناقد أن لا تتكرر ثانية، ولا يخذله الأمل في أن ما يجري هو قطعة من تلك الظلمة وستزول، وأحسبه كسر حاجز الخوف، وتخلى عن قلق الموت، شأنه شأن الانتحاري سوى أنه لا يمارس اللعبة مغسول الدماغ، هدفه الحياة، وإن أخطأه لا ضحية غير نفسه. لقد دربه زمن الرعب كيف تكون المباراة، ولقنه أن الكلمة تعادل في البناء قوة الديناميت في الخراب.

هناك قوى انتحارية داخل العراق لا يستهان بها، لكن من أجل فسحة الأمل، قوى ضد الاستبداد المستشري، ومنها عناصر قضت زمناً في الأحزاب الدينية، ثم وجدت أحزابها خالية الوفاض من برنامج ورؤية. يدرك هؤلاء الانتحاريون المضادون لفرق الموت والفساد والتجهيل أنهم محاصرون بقوى هائلة، وأن فتاوى وممارسات عمائم منتصبة كالأبراج على رؤوس أصحابها، وعذراً لأصحاب العمائم السليمة الطوية، تحول بينهم وبين الأخذ بيد بسطاء الناس إلى التفكير المجدي للتخفيف من المأساة.

يصعب التعبير عن خلجات وهواجس ومخاوف مَنْ يحسب قبل فتح باب داره لطارق يطرقه ألف حساب، ومَنْ يتبادل مع أصدقائه وأقاربه الأمكنة لتضليل القتلة، ومع ذلك يستمر معانداً ومجابهاً. إنها معركة شرسة، ومن شراستها لا تبدو السلطة فيها جهة إنقاذ، بل يميل الغالب من رجالاتها إلى إشاعة فن الموت، وثقافة الظلام. وبالتالي لا يحسد العراق على مثل مَنْ قال فيهم محمد مهدي الجواهري في قصيدة laquo;الرجعيونraquo;: laquo;ومن عجب أن الذين تكلفوا.. بإنقاذ أهليه هم العثراتraquo;.