د. عبد الوهاب المسيري
ذهب quot;عمير بيرتسquot;، وجاء quot;إيهود باراكquot;، فهل من جديد في المشهد السياسي في الكيان الصهيوني؟ وهل يستطيع القادم الجديد إلى زعامة quot;حزب العملquot; ووزارة الدفاع أن ينتشل هذين الموقعين من الحضيض الذي انحدرا إليه على مدى السنوات الأخيرة؟ وإلى أي مدى يؤثر وصول quot;باراكquot; إلى هذين المنصبين على الحكومة الإسرائيلية الحالية، وعلى المستقبل السياسي لرئيسها إيهود أولمرت؟
هذه هي بعض التساؤلات التي تثيرها عودة إيهود باراك بقوة إلى الساحة السياسية بعد غياب دام زهاء ست سنوات، شهدت خلالها هذه الساحة أحداثاً كبرى خلفت تغيرات جوهرية على الخريطة السياسية والحزبية في الكيان الصهيوني.
ومن أبرز هذه الأحداث: انشقاق quot;حزب الليكودquot; وتشكيل quot;حزب كديماquot; بزعامة رئيس الوزراء السابق أرييل شارون، في نهاية عام 2005، وما صاحب ذلك من استقطاب بين الأحزاب المختلفة، حيث اجتذب الحزب الجديد بعض الشخصيات، التي كانت لعقود عدة من الرموز الراسخة في أحزاب أخرى منافسة؛ ثم غياب شارون عن الساحة السياسية تحت وطأة المرض وانتقال زعامة quot;حزب كاديماquot; ورئاسة الوزراء إلى إيهود أولمرت، وما أثاره ذلك من مخاوف بشأن افتقار الزعيم الجديد للحنكة وللمواهب القيادية وللخبرة العسكرية والسياسية، التي اتسم بها سلفه؛ ثم تزايد نفوذ حزب quot;شاسquot; الذي يرفع شعارات دينية متشددة ويقدم نفسه بوصفه المعبر عن مصالح اليهود الشرقيين، وهو ما انعكس في انتخابات الكنيست في مارس 2006 ، حيث تقدم الحزب إلى المرتبة الثالثة بين الأحزاب الصهيونية من حيث عدد المقاعد التي فاز بها؛ ثم تزايد شعبية quot;حزب الليكودquot; بزعامة بنيامين نتانياهو وتصاعد الأصوات، التي أصبحت ترى فيه منقذاً من التدهور الذي آلت إليه الأوضاع في الكيان الصهيوني؛ ثم اندلاع quot;حرب لبنان الثانيةquot; في صيف عام 2006، والتي انتهت إلى هزيمة فادحة، كان لها وقع الزلزال في الكيان الصهيوني، حيث أبرزت على نحو جلي كثيراً من أوجه القصور والإخفاق على المستويين العسكري والسياسي، وهو الأمر الذي كشفته quot;لجنة فينوجرادquot; التي شكلتها الحكومة الإسرائيلية في أعقاب الحرب، وخلصت في تقريرها الأولي إلى توجيه أصابع الاتهام إلى عدد من قيادات الدولة الصهيونية، في مقدمتهم رئيس الوزراء quot;إيهود أولمرتquot;، ووزير الدفاع quot;عمير بيرتسquot;، ورئيس الأركان السابق quot;دان حالوتسquot;.
وعلى مستوى quot;حزب العملquot; نفسه، حفلت السنوات الأخيرة بتحولات كبرى في قيادته وفي مكانته السياسية، حيث تعاقب على رئاسته عدد من الزعماء، مثل quot;بنيامين بن أليعازرquot; وquot;عمرام متسناعquot; وquot;شيمون بيريزquot; ثم quot;عمير بيرتسquot;، دون أن يفلح أي منهم في استعادة، ولو قدر يسير من بريق الحزب القديم، الذي سيطر منفرداً على مقاليد السلطة في الكيان الصهيوني منذ قيامه في عام 1948 وحتى عام 1977، عندما أطاح به quot;حزب الليكودquot;، ودفع به إلى موقع التابع الذيلي، الذي يقتصر طموحه على الفوز ببعض مغانم السلطة، وما يعنيه ذلك من استعداد الحزب لتقديم التنازلات والتراجع عن شعاراته الأساسية المرة تلو المرة، وهو الأمر الذي أدى بدوره إلى مزيد من الهامشية في موقع الحزب، وخاصة مع النجاح المفاجئ الذي حققه quot;حزب المتقاعدينquot; بزعامة quot;رافي إيتانquot; في انتخابات عام 2006، حيث استطاع ببرنامجه الذي يركز على القضايا الاجتماعية ومشاكل الفقراء والمهمشين أن يسحب البساط من تحت أقدام quot;حزب العملquot;، الذي طالما ادعى أنه المعبِّر عن مصالح وتطلعات الشرائح الاجتماعية الدنيا من التجمع الاستيطاني الصهيوني. ثم جاءت تداعيات quot;حرب لبنان الثانيةquot; لتوجه ضربة أخرى لقيادة quot;حزب العملquot; ولسمعته وجماهيريته، حيث كان زعيم الحزب السابق quot;عمير بيرتسquot; يشغل منصب وزير الدفاع أثناء الحرب، مما جعله هدفاً رئيسياً للانتقادات التي وُجهت إلى القيادة العسكرية، سواء من حيث التخطيط للهجوم على لبنان، أو من حيث السلوك الميداني الذي أفضى إلى الهزيمة.
ووسط هذه الأجواء التي تعج بالأزمات، ينظر البعض بتفاؤل إلى إيهود باراك باعتباره حبل النجاة الذي يمكن أن ينقذ quot;حزب العملquot; من التدهور المتواصل وأن يحسن من سمعة المؤسسة العسكرية الصهيونية، التي تأثرت إلى حد كبير مع استمرار الانتفاضة الفلسطينية ومع الانتصارات التي حققتها المقاومة اللبنانية. والملاحظ أن هذه النظرة المتفائلة لا تستند إلى معطيات موضوعية على أرض الواقع بقدر ما تستند إلى تاريخ quot;إيهود باراكquot; نفسه، مما يجعلها أقرب إلى الأمنيات المجردة منها إلى التحليلات المدعومة بأدلة واقعية وعملية.
فمن الصحيح أن اسم باراك، قد ارتبط بعدد من العمليات الدموية quot;الناجحةquot;، مثل اغتيال ثلاثة من أبرز القادة الفلسطينيين، وهم كمال عدوان وكمال ناصر ومحمد يوسف النجار، في بيروت عام 1973؛ وعملية تحرير بعض الرهائن الإسرائيليين على متن إحدى الطائرات التي اختُطفت في مطار quot;عنتيبيquot; في أوغندا عام 1976؛ ثم اغتيال القائد الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) في تونس عام 1988؛ فضلاً عن التعامل بأقصى درجات العنف والوحشية مع المتظاهرين الفلسطينيين في مطلع quot;انتفاضة الأقصىquot;، التي اندلعت في نهاية سبتمبر 2000 إثر زيارة شارون إلى المسجد الأقصى. إلا أن سيرة باراك لا تقتصر على هذه quot;الإنجازاتquot; ولا تخلو من العثرات. فقد كان باراك نفسه، من موقعه كرئيس للوزراء في عام 2000، هو الذي أقر بعجز الدولة الصهيونية عن مواجهة ضربات المقاومة اللبنانية، ومن ثم اتخذ قرار الانسحاب من جنوب لبنان منهياً الاحتلال الذي دام 22 عاماً. كما استمرت الانتفاضة الفلسطينية وحققت مكاسب لا يُستهان بها رغم ما لاقته من قمع على أيدي باراك ثم على أيدي خليفته في رئاسة الوزراء أرييل شارون. وبالإضافة إلى هذا، فإن الأزمات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي طرأت على الأوضاع في الكيان الصهيوني خلال السنوات الماضية، والتي تجسدت في فشل العدوان على لبنان، تجعل الواقع الذي يواجهه quot;باراكquot; حالياً مختلفاً تمام الاختلاف عن الواقع، الذي شهد quot;إنجازاتهquot; السابقة في صفوف الجيش والاستخبارات، مما يثير شكوكاً قوية حول قدرة quot;باراكquot; على تحقيق تحولات جوهرية من خلال منصبه كوزير للدفاع. وينطبق الأمر نفسه على ما يمكن أن يحققه في قيادة quot;حزب العملquot;، وخاصةً في ظل التحديات التي يواجهها الحزب على مستوى ترميم التصدعات في بنيته الداخلية، وهي تصدعات عكسها الصراع العنيف على رئاسة الحزب وتبادل الاتهامات بين المتنافسين على الرئاسة، وتزايد الاستقطاب بين الكتل المختلفة، فضلاً عن التحديات التي يمثلها التحول في الخريطة السياسية في الكيان الصهيوني بعد تأسيس quot;حزب كديماquot; وزيادة نفوذ أحزاب غير تقليدية، مثل quot;حزب شاسquot; وquot;حزب المتقاعدينquot; وquot;حزب إسرائيل بيتناquot;.
وربما استطاع quot;باراكquot;، أن يكون بمثابة حبل نجاة لحكومة quot;إيهود أولمرتquot;، التي تصاعدت الدعوات الرامية إلى استقالتها في أعقاب الفشل في quot;حرب لبنان الثانيةquot;، إذ يمكنه أن يطيل من عمرها لبعض الوقت باستمرار quot;حزب العملquot; في الائتلاف الحكومي، مما يحول دون انفراط عقد الحكومة، ومن ثم إجراء انتخابات جديدة قد تحمل مزيداً من الهزائم لطرفي الائتلاف الرئيسيين. أما إنقاذ quot;حزب العملquot; والمؤسسة العسكرية من الأزمات المستعصية التي تعصف بهما، فأمر يبدو أنه يتجاوز بكثير قدرات فرد بعينه، حتى وإن كان له quot;تاريخ حافلquot; مثل تاريخ إيهود باراك.
والله أعلم.
التعليقات