رغيد الصلح
في خضم التدهور المستمر في العلاقات السورية - اللبنانية تكرر الحديث عن امكانية لجوء دمشق الى اغلاق حدودها مع لبنان. وتنامت التكهنات بصدد هذا الاحتمال بعد الاغلاق الموقت لمعبر القاع - الجوسية بين البلدين. ولقد سارع نائب الرئيس السوري فاروق الشرع الى نفي هذا الاحتمال معتبراً انه لا حاجة اليه ما دامت في لبنان قوى رئيسية تحرص على ابقاء العلاقات بين البلدين بمنأى من الانهيار والتفجير. الا ان نائب الرئيس السوري لم يستبعد مثل هذا الاحتمال استبعاداً كلياً اذا طرأ ما يمكن اعتباره، من وجهة نظر سورية، مساساً كبيراً بالعلاقات بين البلدين.
هذا الاستدراك، مضافة اليه الحملات المتبادلة بين القيادات السياسية في البلدين وما يرافقها ويراكم تأثيرها من ضغوط دولية يقصد منها احداث صدع غير قابل للرأب بين دول عربية معتدلة ودول عربية متطرفة، يفسح في المجال امام الاعتقاد بأن اغلاق الحدود قد لا يكون مستبعدا. بل انه قد يكون اقرب الى الاحتمال مما يتصوره البعض. اذا ما تحول هذا الاحتمال الى واقع فهل تتمكن دمشق عبر خطوة من هذا النوع وبهذا الحجم من التأثير على العلاقات بين البلدين على نحو يصون مصالحها؟
بالطبع هذا السؤال يطرح بدوره المزيد من الاسئلة اهمها يتعلق بتحديد المصالح السورية التي ترغب دمشق في صونها في سياق علاقاتها مع لبنان. وحتى لا نغرق في الاجابة على هذا السؤال بما يبعدنا كلياً عن بحث مسألة اغلاق الحدود كوسيلة للتأثير على الأوضاع اللبنانية، نكتفي بالقول هنا انه يمكن تلخيص الموقف السوري الحالي تجاه لبنان بأنه يهدف الى حماية الوضع الراهن في سورية مع العمل على تعزيز نفوذها في لبنان. أما تعزيز هذا النفوذ فيبقى مسألة تستحق ابحاثاً مستقلة ومستفيضة. ولكن بمعزل عن الدخول في مثل هذا البحث فإنه يمكن ان نتوقع ان تشتد الدعوة الى استخدام وسائل الضغط الاقتصادية على لبنان عن طريق اغلاق الحدود معه. هذه الدعوة سوف تستند الى عدد من الفرضيات يأتي في مقدمها ما يلي:
1- ان الضغوط الاقتصادية سوف تفعل فعلها في لبنان فتؤلب القطاعات الاقتصادية المتضررة على الحكومة وعلى الاطراف السياسية التي تقف موقفا سلبيا تجاه دمشق. استطرادا فإن هذه القطاعات، التي تشمل شتى الميادين والمجالات الاقتصادية، سوف تنضم الى حلفاء سورية في لبنان فتقوي حجتهم وتزيد من تأثيرهم وتعزز مطالباتهم بصدد العلاقات السورية - اللبنانية. عندها فإنه من المتوقع، بحسب هذه الفرضية، ان تضطر الحكومة اللبنانية الى تبديل مواقفها تجاه هذه العلاقات. اذا لم تعدل الحكومة موقفها فان بقاءها في الحكم سوف يصبح أمراً مستحيلاً فتخرج منه كي تأتي محلها حكومة تكون اكثر استعداداً لرأب الصدع مع دمشق. يستند الاقتناع بمثل هذه الفرضية الى سابقة عام 1973 حينما اغلقت سورية حدودها مع لبنان وتمكنت من تحقيق بعض الاهداف المحدودة التي سعت القيادة السورية الى التوصل اليها.
لا ريب ان اغلاق الحدود هو اسلوب يؤثر تأثيراً كبيراً على الاوضاع اللبنانية. الا انه قد يؤدي الى اثر يخالف توقعات دعاته. انه قد يؤدي الى شحذ مشاعر التباعد عن سورية بصورة خاصة، وهي مشاعر كانت رائجة في بيئة لبنانية واحدة، ولكنها اليوم باتت رائجة في بيئات متعددة. وبصرف النظر عن صواب مسببات هذه المشاعر او عن خطأها، فإنها موجودة ومن الممكن استنفارها واستخدامها لتأليب اوساط اكبر من المواطنين ضد سورية وحلفائها في لبنان ولمصلحة الاطراف اللبنانية التي تناصبها اصلاً العداء. في هذا السياق فانه ينبغي عدم الارتكاز الى سابقة 1973 كسابقة وحيدة من نوعها، فهناك سابقة القطيعة مع لبنان التي قررتها حكومة خالد العظم في دمشق في مطلع الخمسينات. ولقد قدرت الحكومة السورية وقتها ان هذا القرار سوف يجبر لبنان على التراجع عن سياساته ولكن هذا لم يحصل، كما ان الاقتصاد اللبناني لم يتأثر بهذا القرار. بالعكس فقد شهد لبنان آنذاك ازدهاراً اقتصادياً كبيراً.
2- ان لبنان هو المستفيد الاكبر من العلاقة مع سورية، خصوصاً بسبب حاجته الماسة الى تصدير انتاجه الى الاسواق العربية عبر الاراضي السورية. الا ان الحقيقة هي ان الفائدة من العلاقات بين البلدين هي فائدة متبادلة، فالمساس بالاقتصاد اللبناني ينعكس سلبا على الاقتصاد السوري والعكس صحيح. في نطاق الفوائد المشتركة للبلدين، فان لبنان هو سوق مهم للصادرات السورية. وعلى سبيل المثال لا الحصر تدل الاحصائيات المتعلقة بالعلاقات البينية العربية انه من اهم الاسواق العربية بالنسبة الى سورية. هكذا احتل لبنان المرتبة الثانية على هذا الصعيد عام 2004 بين الدول العربية بعد دولة الامارات المتحدة. فضلاً عن ذلك فإن لبنان كان يوفر العمل، قبل عام 2005، لحوالي 300 الف عامل سوري مستقر ولحوالي 700 الف عامل سوري مياوم. وهؤلاء كانوا يرسلون ما يفوق، في بعض التقديرات، البليون دولار سنوياً بالعملة الصعبة الى سورية. ان الإضرار بالأوضاع الاقتصادية اللبنانية سوف يؤثر سلباً على الاقتصاد السوري.
3- من الممكن اغلاق الحدود بين البلدين لمدة معينة، وحتى يتراجع بعض اطراف النخبة السياسية الحاكمة في لبنان عن مواقفهم تجاه سورية. عندئذ تفتح الحدود فتعود العلاقات الى سابق عهدها. هذا ما يعتقده ايضا بعض دارسي العلاقات السورية - اللبنانية. فستيفان هايدمان يرى ان الانكماش الحاصل في العلاقات السورية - اللبنانية قد يؤثر بصورة مؤقتة وعلى المدى القصير، ولكن طابع العلاقات الاقتصادية الذي بقي خارج الاطر المؤسسية والقانونية لن يتأثر على المدى الطويل بالتبدل الطارئ على العلاقات السياسية وسوف يبقى على حاله الراهن حتى ولو طرأت عليه بعض المتغيرات الدراماتيكية. وتشارك اليزابيث بيكار هايدمان رأيه في الطابع غير الرسمي للعلاقات السورية - اللبنانية. وهي تذهب الى ابعد مما يذهب اليه اذ تعتقد ان هذا النمط من العلاقات الذي اظهر استمرارية لافتة للنظر، سوف يدوم ويتطور وصولاً الى بناء اطار لعلاقات ثابتة ومستقرة ذات بُعد اقليمي.
هذه التقديرات سبقت التدهور الحاصل في العلاقات بين البلدين. وهذا التدهور يدفع بالعلاقات مرة اخرى- بالمقارنة مع اواخر الخمسينات مثلاً - الى حدود الأزمة المفتوحة والمصيرية. وهي تعزز منطق اولئك الذين يرون العلاقات بين البلدين محكومة بنوع من العداء المستوطن بينهما، وتضعف موقف دعاة التعاون بين السوريين واللبنانيين. كذلك فان هذه التقديرات لا تأخذ بعين الاعتبار اهمية المتغيرات البعيدة الامد التي تطرأ على المنطقتين العربية والمتوسطية. فعلى الصعيد الاخير تحديداً، نجد ان العلاقات التجارية بين لبنان ودول الاتحاد الاوروبي هي في تطور مستمر بحيث باتت تشكل ما يقارب الخمسين بالمئة من مجمل تجارته الخارجية، كما جاء في كتاب laquo;نهوض لبنان: نحو رؤية اقتصادية اجتماعيةraquo; الذي اصدره روجيه نسناس رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي اللبناني، وان التطور في العلاقات الاقتصادية بين لبنان ودول الاتحاد الاوروبي يفوق التطور في العلاقات بينه وبين الدول العربية.
إن هذا التطور لا يضر لبنان ولا يضير المجموعة العربية. هذا على المدى القريب والمباشر، أي مدى مساعدة لبنان على اجتياز الاوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمر بها. ولكنه على المدى البعيد سوف يترك آثاراً مهمة على كل صعيد. انه سوف يطرح تحدياً لا ريب في اهميته على اولئك الذين يشددون على اهمية المصالح التي تشد لبنان الى المنطقة العربية وعلى دوره واهميته فيها. فاذا ترافق ذلك مع سياسات من شأنها اضعاف صلات لبنان مع هذه المنطقة وتشجيعه على التطلع الى الغرب، كما يمكن ان يحصل اذا ما اغلقت الحدود السورية - اللبنانية، فان ذلك سوف يعمق هذه التحديات ويزيدها تعقيدا. بالمقابل، فان العمل على التخفيف من ازمة العلاقات السورية - اللبنانية والخروج منها الى بناء تعاون بين بيروت ودمشق يقوم على اساس التكافؤ والندية واحترام ارادة اللبنانيين وتمسكهم بالسيادة والنظام الديموقراطي، سوف تكون له انعكاسات مهمة ليس على صعيد العلاقات اللبنانية - السورية فحسب وإنما ايضاً على صعيد توطيد دور لبنان في المنطقة العربية وترسيخ فاعليته فيها.
التعليقات