إياد أبو شقرا


تقول إحدى الحكم إنه إذا أخطأ المرء أول مرة من حقه لوم الخصوم، وإذا أخطأ ثانية يجوز له لوم الظروف.. لكنه إذا أخطأ للمرة الثالثة فما عليه إلا لوم نفسه.

البطريركية المارونية ومجلس المطارنة الموارنة في لبنان اتخذوا من مقر البطريركية في بكركي عدة مواقف خلال السنتين الفائتتين بدت سلبية التصور أو التوقيت مع أن لكل منها مبرّره الوجيه لو أخذ بمعزل عن غيره.

فعند تفجّر laquo;انتفاضة الاستقلالraquo; دعا بعض أركانها للزحف على قصر الرئاسة في بعبدا لفرض تنحي الرئيس.. لكن بكركي عارضت laquo;مبدأ إسقاط رئيس الجمهورية في الشارعraquo;. وفوراً احترم laquo;الاستقلاليونraquo; رغبتها وتفهّموا مخاوف مؤسسة دينية تدافع عن حقها في الاحتفاظ بهيبة أعلى منصب في الدولة، مع أن هذا الدفاع ضرب قوة دفع laquo;الانتفاضةraquo; وسمح لحلفاء بعبدا داخل لبنان وخارجه بالتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم الصفوف وبدء الهجوم المضاد المستمر حتى هذه اللحظة.

وفي مطلع العام الحالي، خلال أسابيع من بدء المعارضة laquo;الحزب اللّهيةraquo; وتوابعها المسيحية اعتصامها في قلب بيروت.. ومن ثَم قرارها تصعيد تحركها لشل الحياة العامة، ارتبكت بكركي قبيل يوم التحرك المقرر في 23 يناير (كانون الثاني) فوزّعت اللوم في الأزمة السياسية بالتساوي بين الحكومة والمعارضة مما فسّره التوابع المسيحيون كـlaquo;التيار العونيraquo; على أنه إذن لهم بالتصعيد. وكان ما كان خلال ذلك اليوم الأسود، وما تلاه على امتداد 48 ساعة من تطوّرات كادت تحدث فتنة طائفية كبرى.

ثم بعد فترة قصيرة، خرج موقف ثالث من بكركي مؤداه أن لا ضرورة لإقرار المحكمة ذات الطابع الدولي للنظر بجريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.. وهو بالضبط المطلب الذي كانت ترفعه المعارضة.

ومع أنه صدرت عن بكركي والمطارنة، في تلك الآونة، مواقف أخرى تدعم مبادئ laquo;انتفاضة الاستقلالraquo;، كمناشدة رئيس الجمهورية بالتنحي، ظل الجو العام جو ارتباك ملؤه رسائل متناقضة توجه إلى اللبنانيين عموماً.. وللمسيحيين بصفة خاصة.

غير أن تطوّرات الأسابيع القليلة الماضية كانت لافتة ومؤسفة جداً.

فخلال برنامج تلفزيوني مع أحد المطارنة البارزين سياسياً اتهم المطران أهل السلطة ـ في تلميح إلى الحكومة الحالية ـ بـlaquo;أسلمة لبنانraquo;، وحَمَل على laquo;إهمالها مشاعر المسيحيين والاستخفاف بمقدّساتهمraquo; عبر إلغائها إجازة يوم laquo;الجمعة العظيمةraquo;. وعلى الأثر هبّ laquo;العونيونraquo; لاستغلال الموضوع بصورة مخجلة، قبل أن يتبين أن اقتراح إلغاء إجازة ذلك اليوم طرح وأقر في مجلس وزراء سابق لاستقالة وزراء حزب الله وحركة laquo;أملraquo;، وجاء من حليفهم (حتى في الاستقالة) الوزير المسيحي الأرثوذكسي يعقوب الصراف.

ومع أن الحكومة سارعت إلى إلغاء الإلغاء تأكيداً لحسن نيتها، فإنها كوفئت بطعنة ثانية في بيان مجلس المطارنة الأخير. إذ تضمّن البيان جملة مآخذ تحذّر من laquo;أسلمةraquo; لبنان انطلاقاً من طرح الحكومة مشروع قانون حقوق الطفل في الإسلام، بجانب موضوع شراء الأراضي ونقص المجندين المسيحيين في القوى الأمنية. ومجدداً استغل تيار عون هذا الكلام ليهاجم laquo;ضعفraquo; التمثيل المسيحي في الحكومة. كما تطوعت إحدى الصحف المؤيدة للمعارضة بإجراء مقابلة مع المطران الذي كان قد فجّر موضوع laquo;الجمعة العظيمةraquo;.. وطبعاً كرّر في المقابلة اتهامه الحكومة بـlaquo;أسلمةraquo; البلد!

لا غرابة في استغلال عون المواقف الأخيرة التي قد تمثل، أو لا تمثل، أجواء البطريركية المارونية. فالرجل محرج في الشارع الذي ربّاه على التطرف والعداء لـlaquo;الآخرينraquo; قبل أن ينقلب 180 درجة على خطابه التحريضي. ومن الطبيعي جداً أن يحاول في حمأة العد التنازلي لمعركة رئاسة الجمهورية التزيي بزي الكهنوتي المقاتل ضد laquo;سلبraquo; المسلمين امتيازات المسيحيين.

وفي المقابل من حق حزب الله استخدام كل الأسلحة المتاحة في حربه الطائفية والسياسية الضروس ضد الحكومة، بما فيها توفير الرعاية المالية والأمنية لجميع laquo;أدواتهraquo; وlaquo;عملائهraquo; داخل طوائفهم وعلى مختلف المستويات. ولا شك، أن الحزب يستحق التهنئة على نجاحه الكبير في احتضان رئيس الجمهورية ودعمه، ابتداء من تجييش وفود المخاتير والنواطير وتلامذة المدارس لزيارة قصر بعبدا، وانتهاء بالدفاع عن laquo;صلاحيات الرئاسة الأولىraquo;.. وهي صلاحيات وقعت الشيعية السياسية فجأة في غرامها!

ولكن المؤسف أن ما يحدث أشد خطراً على المسيحيين من هواجس المطارنة.

فهناك اختلال موازين غريب بين تعمد إثارة القضايا التفصيلية الصغيرة وتضخيمها ـ كما حدث أخيراً ـ .. وبين الأبعاد المصيرية للصراع الراهن بين فريقي laquo;14 آذارraquo; وlaquo;8 آذارraquo; وتداعياته المحلية والدينية والإقليمية. فموضوع laquo;الجمعة العظيمةraquo; حسم وفق رغبة بكركي بسرعة، وموضوع laquo;حقوق الطفل في الإسلامraquo; لن يبتّ فيه قبل أن ينظره مجلس النواب. في حين أن تعطيل المؤسسات الدستورية ـ ومنها رئاسة الجمهورية ـ، واستمرار وجود السلاح وبقاء قرار الحرب والسلم في غير أيدي الدولة، هما العنصران الأشد تهديداً لبقاء لبنان وسيادته.

ومن جهة ثانية، laquo;إحراقraquo; مسيحيي laquo;14 آذارraquo; خدمةً لعون لن يزج فقط بالمجتمع المسيحي في أحقاد هو بغنى عنها، بل ينزلق أيضاً بالمسيحيين إلى قلب ساحة الاستقطاب المذهبي الإسلامي ـ الإسلامي، ويضعهم في خندق تحالف laquo;حزب الله ـ أملraquo; ضد أغلبية المسلمين السنّة التي لولاها لما تحققت laquo;انتفاضة الاستقلالraquo;.

إن المطارنة الأجلاء أحرار في كره الحكومة الحالية أو حبها، لكنهم إذا كانوا مقتنعين بأن أمثال فؤاد السنيورة ومحمد الصفدي عناصر متطرفة همها laquo;أسلمةlaquo; لبنان، فلماذا لا يؤسسون تحالفاً laquo;أقل إسلاماًlaquo; مع قوى سنيّة بديلة laquo;معتدلةlaquo; كالدكتور فتحي يكن وlaquo;حركة التوحيد الإسلاميlaquo; وlaquo;جمعية المشاريع الإسلامية (الأحباش)laquo; وlaquo;جند الشامlaquo; وlaquo;عصبة الأنصارlaquo; ... أو حتى laquo;فتح الإسلامlaquo; أيضاً؟