هنري كيسنجر ـ واشنطن بوست
تصل الحرب في العراق الى نمط من ذروة مفروضة ذاتيا. ففي سبتمبر عندما ينتظر أن يقدم الجنرال ديفيد بتراوس، القائد الأعلى في العراق، تقريرا مؤقتا، يتوقع من الرئيس أن يعلن استنتاجاته في ما يتعلق بالاستراتيجية المستقبلية. ومن المؤكد أن الكونغرس سيضغط من أجل انسحاب سريع، ان لم يكن كاملا، للقوات الأميركية. ومن المحتمل أن تتصاعد المطالب بحل سياسي.
وعدم التأييد الشعبي لحرب العراق أمر محسوس. ومن بين أسطع الأمثلة التعبير عن القلق من جانب السناتور الجمهوري ريتشارد لوغار الذي يتمتع باحترام واسع. ومن ناحية أخرى فان جمهور الديمقراطيين يحمل، في خاتمة المطاف، زعماءه المسؤولية عن الكوارث، حتى اذا كانت القرارات التي تسبب الكارثة تعكس تفضيلات الجمهور في حينه. ان انسحابا سريعا يمكن أن يؤدي الى مثل هذه الكارثة. فهو لن ينهي الحرب وإنما يحولها الى مناطق أخرى مثل لبنان أو الأردن أو المملكة العربية السعودية. والحرب بين الأطراف العراقية ستتكثف. وإظهار العجز الأميركي سيعزز النزعة الاسلامية الراديكالية ويؤدي لاحقا الى تقوية مواقع نشطائها من اندونيسيا والهند الى ضواحي العواصم الأوروبية.
وأيا كانت جداولنا الزمنية الداخلية فان انهيار الجهد الأميركي في العراق سيكون كارثة جيوسياسية. وفي ذلك المعنى فان هدف الانسحاب من طرف واحد والسعي الى مخرج سياسي غير متوافقين مع بعضهما.
فنحن نواجه، في الواقع، عددا من المفارقات. فالنصر العسكري، بمعنى اقامة حكومة قادرة على فرض قانونها في مختلف أنحاء العراق غير ممكن في اطار زمني توفره العملية السياسية الأميركية. غير انه ما من حل سياسي يمكن تحقيقه بمعزل عن الوضع على الأرض. ان ما تحتاجه أميركا والعالم هو ليس انسحابا منفردا وإنما رؤية من جانب ادارة بوش لنهاية سياسية صلبة ودائمة للصراع. ان الانسحابات يجب ان تنبثق من حل سياسي، وليس العكس. تكييفات الانتشار المعتمدة على قرارات استراتيجية مسألة أخرى ومن الناحية التقليدية تكافح الدبلوماسية من أجل اكتشاف الأهداف المشتركة واستثمارها في تسوية فاعلة. وما يميز الدبلوماسية بشأن العراق هو أنها تحتاج، في النهاية، الى تحديد طريقة معالجة مشتركة من المخاوف المشتركة. فكل طرف من الأطراف، أي الولايات المتحدة، والأطراف الداخلية، وجيران العراق، والأعضاء الدائمون في مجلس الأمن، يواجهون واقع انهم اذا ما سعوا الى أهدافهم المفضلة، فان مرجل العراق قد يفيض ويحاصر المنطقة بأسرها.
وللولايات المتحدة ومعظم جيران العراق مصلحة قومية كبيرة في منع ظهور مناطق تدريب في العراق للمحاربين الاسلاميين المتطرفين تكرر تجربة طالبان في أفغانستان. وما من احد من جيران العراق، بما في ذلك ايران، في وضع يمكنهم من السيطرة على الوضع مقابل معارضة جميع الأطراف المعنية الأخرى. فهل من الممكن التوصل الى نتيجة ايجابية اعتمادا على مثل هذه الاعتبارات ؟
يجب أن يجري البحث عن جواب عبر ثلاثة مستويات: داخلي، وإقليمي ودولي.
ظلت الأطراف الداخلية ـ الشيعة والسنة والأكراد ـ موضع التماسات متكررة من الأميركيين لتحقيق المصالحة الوطنية، لكن الكيانات الثلاثة التي تفصلها عن بعضها البعض قرون من النزاعات الدموية تبذل جهودها كي تسوي خلافاتها عبر وسائل دستورية، وهي بحاجة إلى دعم قوي للبدء بالعملية الدبلوماسية التي يمكن أن تستند إلى دعم دولي لتحقيق الاتفاقات الداخلية التي يمكن الوصول إليها أو احتواء نزاعاتها إذا كانت الأطراف الداخلية غير قادرة على الوصول إلى الاتفاق وإذا تفكك العراق.
وعلى الرغم من أن اهتمام الإعلام مسلط على أي دول يجب أن تشارك في الدبلوماسية مع تركيز خاص على إيران، فإن النقاش الحقيقي يجب أن يبدأ مع سؤال جوهري: ما الذي تسعى الدبلوماسية إلى تحقيقه؟
يجب أن يكون الهدف الأميركي الوصول إلى اتفاق دولي بما يخص الوضع الدولي للعراق. ويجب اختبار الدول الجارة للعراق إضافة للدول البعيدة فيما إذا كان ممكنا لها أن تصل إلى مفاهيم عامة تقرب من السياسات المختلفة. وهذا سيوفر إطارا شرعيا وسياسيا لمقاومة الخروق. وهذه هي المعايير المهمة التي تختبر الانسحاب الأميركي.
والسبب الذي يجعل دبلوماسية من هذا النوع قابلة على التنفيذ هو استمرار الازمة العراقية الحالية بتقديم مشاكل كبيرة للدول الجارة. وكلما استمرت الحرب في العراق وتصاعدت حدتها كلما ازداد احتمال تفكك البلد وتحوله إلى وحدات طائفية. وظلت تركيا تشدد على أنها ستقاوم تفكك العراق بواسطة القوة بسبب التأثير المتطرف للدولة الكردية على أكراد تركيا الذين يشكلون ثقلا سكانيا كبيرا. لكن ذلك سيجر تركيا إلى نزاع غير مرغوب به مع الولايات المتحدة ويفتح صندوق بندورا لتدخلات عسكرية أخرى.
تخشى السعودية والأردن الهيمنة الشيعية في العراق إن هي قادت إلى تحول البلد إلى قمر صناعي يدور في فلك إيران. بل أن دول الخليج خاصة الكويت ستجد نفسها في وضع أكثر خطورة، ومصلحتها تكمن في المساعدة على تهدئة الغليان الجاري في العراق وتجنب الهيمنة الإيرانية للمنطقة.
من المرجح أن يكون تصرف سوريا أكثر التباسا. فأواصرها القوية بإيران تمثل دعوة إلى مكانة وفي الوقت نفسه ضعفا. فهي تؤيد حزب الله اللبناني الواقع تحت الهيمنة الإيرانية من أجل تقليل التأثير الغربي لكنها تخاف التصادم مع الولايات المتحدة بل حتى مع إسرائيل في حالة انفلات الأوضاع في المنطقة.
وبتواجد دبلوماسية أميركية حكيمة وحازمة قد يكون ممكنا حتى إقناع إيران بأن استمرار الغليان في العراق قد تكون له تأثيرات سلبية عليها أكثر من الإيجابيات. لعل القادة الإيرانيين يؤمنون اليوم أن الريح وراء ظهورهم وأن اللحظة الحالية لصالحهم لإعادة حلم بناء الامبراطورية الفارسية أو قلبا للانشقاق الشيعي ـ السني تحت هيمنة الشيعة. من جانب آخر فإن هناك قادة إيرانيين متعقلين وهؤلاء قد يتوصلون إلى استنتاج مفاده أن بإمكانهم أن يصلوا إلى مكاسب أفضل من خلال التفاوض بدلا من جرهم إلى مخاطر حول الصراع من أجل الهيمنة على المنطقة.
مهما كانت منقسمة فإن الولايات المتحدة ستظهر، ومهما كان تردد اوروبا، فإن الواقع الجيوبوليتكي سيفرض نفسه. الدول الصناعية لن تسمح بأن تخضع المنطقة الرئيسية لإمدادها بالطاقة لسيطرة دولة مثل ايرن تتبع سياسات تنزع الى الثورية والسخرية من الآخرين. ولن يذعن رئيس اميركي، في نهاية الأمر، عندما تتضح للعيان العواقب المترتبة على السيطرة الايرانية على المنطقة. روسيا ستكون لها اسبابها، على وجه الخصوص الخوف من تحول اقليتها المسلمة باتجاه التطرف، التي ستدفعها لمقاومة سيطرة ايران والإسلاميين المتطرفين على منطقة الخليج.
بالإضافة الى الجدل الدولي حول برنامج الاسلحة النووية، من المحتمل ان ينظر القادة الايرانيون الى تحدي نزعة التحدي كسبب محتمل في تعريض ايران لمخاطر. ربما يكون هذا هو السبب وراء إبداء ايران (وسوريا) رغبة في الحوار مع الولايات المتحدة والسبب ايضا وراء احتمال ان تظهر رغبة متبادلة حقيقية في مثل هذا الحوار.
اذا وصلت ايران الى هذه الخلاصة، ومتى ما وصلت اليها، لا بد من تلبية شرطيين: أولا، لن تكون هناك دبلوماسية جادة قائمة على اساس ان الولايات المتحدة ليست الجانب المتوسل. فالولايات المتحدة وحلفاؤها يجب ان تظهر تصميما على التمسك بمصالحها التي ستنظر اليها ايران كونها مصالح حقيقية وذات مصداقية. ثانيا، الولايات المتحدة في حاجة الى طرح موقف دبلوماسي يعترف بمشروعية المصالح الامنية لإيران على اساس قبولها النظام الحالي في منطقة الخليج بدلا عن محاولاتها المستمرة للقضاء عليه.
يجب ان يطرح هذا التفاوض في إطار منبر متعدد الأطراف، إذ ان أي تفاوض ثناني ايراني ـ اميركي سيضخم كل المخاوف الأمنية التي تتهدد المنطقة. لبنان والأردن والسعودية والكويت ـ التي ائتمنت الولايات المتحدة على أمنها ـ اصبحت على قناعة بأن تفاهما ايرانيا ـ اميركيا بات يلوح في الافق، إلا ان الولايات المتحدة في حاجة الى ان تتعامل مع هذه المسألة بمنتهى الحذر، لأنها ربما تجد كأسا مسموما. ولكن في ظل التفاهم الجماعي ستجد الولايات المتحدة نفسها قادرة على إجراء محادثات فردية مع الأطراف المشاركة، مثلما حدث في المنبر السداسي الخاص بكوريا الشمالية، على الرغم من ان رد الفعل الياباني على المحادثات الثنائية الاخيرة بين الولايات المتحدة وبيونغيانغ مؤشر مماثل على القلق والتوتر الذي بدأ يظهر في الشرق الاوسط، وهو امر يتطلب التعامل بحذر فيما يتعلق بالتشاور.
هناك منبر موجود لمثل هذه المساعي يتمثل في مؤتمر وزراء الخارجية الذي انعقد في شرم الشيخ، والذي جرى التوصل من خلاله الى إجراء لقاء آخر في اسطنبول في تاريخ سيتفق عليه فيما بعد. حضر اللقاء كل دول الجوار العراقي، بما في ذلك ايران وسوريا، الى جانب وزراء خارجية الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة الى مصر. افتقر المؤتمر الى التركيز بشكل واضح على القضايا وتحول الى سيرك للعلاقات العامة. ولعل من مصلحة الولايات المتحدة العمل على تحويل المؤتمر الى مشروع عملي تحت قيادة اميركية قوية.
يجب ان يكون غرض المؤتمر مركزا حول تحديد الوضع الدولي للبنية السياسية العراقية الناشئة في إطار سلسلة التزامات مشتركة، مثلما حدث في القرن التاسع عشر عندما جرى تأسيس بلجيكا. ايران ستواصل التطور كدولة ذات سيادة ولكن ستوافق على وضع نفسها تحت الرقابة الدولية مقابل ضمانات محددة. وفي ظل مشروع كهذا ستتحول القوة المتعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة الى وكيل لهذا الاتفاق على غرار التسوية التي حدثت في البلقان او ما حدث في افغانستان. ستكون هناك قوات دولية على الحدود العراقية لمنع أي تسلل الى داخل العراق. وفيما للاتفاقيات الأمنية الثنائية فوائد، فإن ثمن التأييد الدولي سيكون وضعا جديدا يبعث الاطمئنان والتزامات بعدم التدخل من جانب دول الجوار.
الى حين الوصول الى هذه النقطة، يجب ان تنشر القوات الاميركية على نحو يمكنها من التأثير بصورة كبيرة على القضايا الكبيرة التي تهم الولايات المتحدة مثل إقامة قواعد للإرهابيين او ظهور نظام إرهابي، على ان يكون عدد هذا القوات مناسبا مع المهام الموكلة لها.
مثل هذه الدبلوماسية ستجعل من الممكن ايضا مشاركة الدول الصديقة في العملية على ان يكون لها نصيب في المحصلة النهائية الايجابية. ليست هناك دولة اكثر عرضة لأخطار التطرف الاسلامي اكثر من الهند. إذ من المحتمل ان يغري سكانها المسلمين نجاح التطرف الاسلامي في الشرق الاوسط. من ضمن الدول الأخرى ذات المصلحة في النهاية التي تتسم بالاعتدال اندونيسيا وماليزيا، إذ من الممكن ان تشاركا في قوة حفظ سلام اقليمية بمجرد التوصل الى اتفاق.
يشير كل ذلك الى مساع دولية ذات ثلاثة جوانب: اولا، المفاوضات المكثفة بين الأحزاب العراقية، ثانيا، قيام منبر اقليمي مثل مؤتمر شرم الشيخ بغرض التباحث حول ايجاد وضع دولي انتقالي مناسب للعراق، وثالثا، عقد مؤتمر موسع يركز على حفظ السلام. لا شك في ان بقية دول العالم لن تقف موقف المتفرج في هذه العملية التي سيكون لها اثرها على هذه الدول.
لن يقبل الرأي العام الاميركي ولا النظام الدولي وجود قوة عسكرية اميركية في المنطقة. المفهوم المشار اليه هنا يسعى في الاساس الى تأسيس إطار لنظام دولي جديد، وهذا محصلة نهائية ناتجة عن الوضعين السياسي والعسكري على الارض وليس من العناوين الزائفة للأخبار.
التعليقات