د. عصام نعمان


واشنطن جميلة جداً في الخريف. إنها مدينة حديقة ترفل في هذا الفصل من السنة بألوان أوراق أشجارها الزاهية وهي تستعد للسقوط. ومع ذلك فإن جورج بوش لا يرغب في لقاء مدعويه من المنطقة ليستمتعوا بخريف واشنطن الزاهي. للقاء التشاوري الذي تسميه واشنطن مؤتمراً، أغراض أخرى لاتزال كوندوليزا رايس تجتهد في التفتيش عن الكلمات الملائمة لتوصيفها. لكنها تولي، في الوقت الحاضر، مسألة المدعوين إلى المؤتمر أولوية مطلقة. لعلها نجحت أخيراً في التوصل إلى تحديد معيار للدعوة. انه عضوية لجنة المتابعة العربية التي ألفتها جامعة الدول العربية لمتابعة ldquo;مبادرة السلام العربيةrdquo;.

في هذا الإطار ستتم دعوة سوريا. دعوتها، إذاً، مجرد ldquo;رفع عتبrdquo; لتفادي مشكلة. ذلك ان استثناءها ldquo;يتسبب بصعوبات للأعضاء الآخرين في التفكير في ما إذا كانوا سيحضرون أم لاrdquo;، على حدّ قول رايس. ماذا عن السعودية؟ وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل لا يبدو متحمساً للحضور. السبب؟ لعله يتململ ليدفع واشنطن إلى الضغط على ldquo;إسرائيلrdquo; لتعطي محمود عباس ldquo;تنازلاتrdquo; محسوسة قبل انعقاد المؤتمر. عباس أبدى هو الآخر الكثير من التململ قبل ذهابه إلى نيويورك للقاء بوش. هل أقنعه الرئيس الأمريكي أخيراً بأن يبتلع تحفظاته؟ إن من يقرأ أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبدربه يخرج بإنطباع مفاده أنه يصعب على أبي مازن أن يذهب صفر اليدين إلى واشنطن. فقد ldquo;رفعrdquo; عبد ربه السقف في أثناء زيارة رايس الأخيرة لرام الله بقوله إن الفلسطينيين ليسوا بحاجة إلى وثيقة مبادئ جديدة بل إلى اتفاق نهائي ldquo;عناصر الحل وآلية التنفيذ وجدول زمني للتطبيق كي يعرض على استفتاء شعبيrdquo;.

إيهود أولمرت لا يمانع في العمل من أجل صياغة اتفاق نهائي. لكن ذلك يتطلب، صدّق أو لا تصدّق، من 25 إلى 30 عاماً، كما قال لأعضاء لجنة الأمن والشؤون الخارجية في الكنيست.

في هذه الأثناء، لا يجد صهاينة الاستيطان سبباً لوقف نشاطهم. فقد أعلن ناشطون من اليمين المتطرف نيتهم في إقامة خمس مستوطنات عشوائية جديدة الأسبوع المقبل في الضفة الغربية. قد تسارع الدكتورة كوندوليزا إلى مطالبة أولمرت بأن يحبط مشروع هؤلاء المتطرفين الذين يفتقرون إلى الكياسة. حتى إذا فعل، قامت فاتنة البيت الأبيض للتو بالاتصال بأبي مازن لتزف إليه النبأ السار، ولتؤكد له تكراراً أن لا مانع من مناقشة ما يمكن أن يكون عليه مضمون الاتفاق النهائي، أي مسائل الاستيطان والحدود واللاجئين والقدس، وأن الحوار والنقاش هو الطريق الموصل إلى الاتفاق في يوم من الأيام، فحذار تضييع الفرصة يا أبا مازن.

حسناً، وافقت واشنطن بعد لأيٍ على دعوة سوريا الى مؤتمر سلام الخريف، فهل توافق دمشق على الحضور؟ قبل الدعوة كان الرئيس بشار الأسد شدد أمام وفد من حزب المحافظين البريطاني على ضرورة ldquo;عدم تسخير عملية السلام عبر مبادرات لخدمة مآرب أخرى غير السلامrdquo;. وبعد ترجيح الدعوة صرح وزير الإعلام محسن بلال بأنه ldquo;إذا كانت ldquo;إسرائيلrdquo; والولايات المتحدة تسعيان من خلال المؤتمر إلى التطبيع فقط، فأعتقد أنهما وقعتا في الخطأrdquo;. غير أن صحيفة ldquo;ذي غارديانrdquo; البريطانية أكدت، بالاستناد الى مصادر دبلوماسية، ldquo;أن وزير الخارجية وليد المعلم سيرفض الدعوة حين يجري هذا الأسبوع محادثات في الأمم المتحدة ما لم يتلقَ ضمانات قوية بأن المؤتمر سيكون أكثر جدية مما يبدو الآنrdquo;. كيف يكون المؤتمر أكثر جدية؟

دمشق تعتقد، بحق، أن بوش ldquo;أراده مؤتمراً للتطبيع ليس إلاّrdquo;، كما وصفته صحيفة ldquo;تشرينrdquo; الحكومية، في حين أن دمشق تريده مناسبة لمراجعة سياسية حقيقية لأخطاء الإدارة الأمريكية التي ldquo;جلبت الويلات للمنطقةrdquo;. بل إن دمشق تبتغي، بلسان وزير إعلامها، ldquo;أن يأخذ المؤتمر في الاعتبار موضوع السلام الشامل في المنطقة ومتطلباته التي تقضي بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى بلادهمrdquo;. محسن بلال توخّى، على ما يبدو، مجانبة الحديث عن هواجس أخرى تبدو أكثر أهمية لدمشق. أول الهواجس أمن سوريا القومي المتكامل مع دور حلفائها في لبنان، لاسيما حزب الله ومقاومته الصلبة ضد ldquo;إسرائيلrdquo;. ثانيها أمن قطاع غزة ومستقبل علاقته بالضفة الغربية بعد إعلانه ldquo;كياناً معادياًrdquo; ل ldquo;إسرائيلrdquo;. ثالثها مخاطر إصرار واشنطن على فك تحالف سوريا مع إيران.

وللسعودية هواجسها ومتطلباتها أيضاً. هي تريد لأبي مازن أن يذهب إلى واشنطن وفي يديه بعض ldquo;التنازلاتrdquo; ldquo;الإسرائيليةrdquo; التي توحي بأن الأطراف المدعوة إلى مؤتمر الخريف تسير فعلاً على طريق مبادرة السلام العربية. ثم هي تريد دوراً أوسع لها في لبنان لحل الأزمة المستعصية، ودوراً أوسع لها في العراق لدعم القوى العربية الإسلامية السنّية في مجابهة حكومة نوري المالكي التي تعتبرها موالية لإيران.

في عمان، انضم الملك عبد الله الثاني والرئيس حسني مبارك الى ركب المعترضين على هُزال جدول أعمال مؤتمر واشنطن، مطالبين في قمتهما بإدراج قضايا الحل النهائي فيه بما يؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

هذه الهواجس والمتطلبات السورية والسعودية والفلسطينية والمصرية والأردنية لا تجد آذاناً صاغية في واشنطن. على العكس، تبدو إدارة بوش منهمكة بقضايا أخرى كالضغط على إيران لوقف برنامجها النووي، والضغط على سوريا بمشاركة ldquo;إسرائيلrdquo; في عمليتها العسكرية الجوية الأخيرة أو تبرير فعلتها على الأقل، ومساندة ldquo;إسرائيلrdquo; في إعلانها قطاع غزة كياناً معادياً، والضغط على دول الخليج لتشكل خط ردعٍ أول في المواجهة مع إيران.

غير أن ما يدعو إلى الإحباط فعلاً هو عدم إدراك معظم الدول العربية تطور الصراع في المنطقة على نحوٍ أفرز توازناً بازغاً في القوى المحلية والإقليمية يقتضي استثماره لمصلحة القضايا العربية العالقة. فالمحور الأمريكي ldquo;الإسرائيليrdquo; عاجز في الوقت الحاضر عن فرض هيمنته وبالتالي مخططاته على دول المنطقة. كذلك فإن المحور الإيراني السوري عاجز بدوره عن فرض إرادته على الولايات المتحدة وrdquo;إسرائيلrdquo; وإن كان أصبح أكثر قدرة على مواجهة مخططاتها. في وضعٍ لافت من التكافؤ النسبي كالذي يسود حالياً، يقتضي أن تكون المجموعة العربية أكثر نباهة وشطارة وتصميماً على دعم سياساتها ومصالحها، لاسيما في مواجهة إدارة بوش المتعثرة في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان، والتي تعاني من تزايد المعارضة لسياساتها في الكونجرس كما في أوساط الرأي العام الأمريكي. والحال أن الحكومات العربية المدعوة إلى مؤتمر الخريف في واشنطن تبدو في معظمها غافلةً عن إدراك دلالات التحولات الإقليمية الوازنة وبالتالي منساقة في ألاعيب السياسة الأمريكية ومغامرات جورج بوش الفاشلة.

هل يطول الوقت قبل أن تدرك هذه الحكومات المسترخية بلا مسوّغ أن مؤتمر سلام الخريف في واشنطن لن يكون إلا مجرد تمرين في العلاقات العامة والدبلوماسية الناعمة الفارغة، وأن الربيع لن يعقب خريف واشنطن بل عواصف الشتاء البارد والتطبيع المجافي لعواطف الشعوب؟