يوسف الكويليت

انتشر القتل في لبنان فكان الضحايا سياسيين كباراً ورجال دولة، وصحفيين وغيرهم، وجاءت النتائج بتشكيل محققين وقضاة دوليين لأن الجرائم التي حدثت كان لا بد أن توضع في سياق الجنايات الكبرى التي يجب أن تُعهد إلى لجان تحقيق دولية لا يرقى إليها الشك والتحيز..

ثم جاء قتل (بنازير بوتو) ليضعها في واجهة الأحداث في نهاية عام ميلادي وبداية آخر، وجاءت الاحتجاجات بضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة تكشف الجناة، والمتورطين، وخيوط المؤامرة كلها، وهو حق في عالم تسوده مبادئ القتل على اتباع الشرائع الدولية المتعارف عليها..

ومع أن ذلك منطق يجب أن يرعاه المجتمع الدولي ويحمي الأشخاص والمجتمعات من الجرائم الكبرى، إلا أن هناك سوابق كثيرة لم يرتفع سقفها إلى هذا الاهتمام بحيث يُكشف النقاب عن ملابسات قتل سكرتيريء الأمم المتحدة (الكونت برنادوت، وداغ همرشولد)، ولا كيف انتهت التحقيقات بمقتل كيندي على دراما وضعت خيوطها داخل كواليس الاستخبارات الأمريكية، وبأي سيناريو أُسقطت طائرة ضياء الحق مع السفير الأمريكي، وأين ذهب دم (باتريس لوممبا) وغيرهم الكثير الذين راحوا ضحايا أنظمة يسارية ويمينية وصراعَ قوى ومخابرات، وانقلابات تديرها الدول العظمى، أو من ينوب عنها؟

من المنطقي أن تتساوى القضايا والأشخاص أمام القانون، لكن الحقيقة مغايرة تماماً لذلك، وإلا كيف يُستثنى البعض بفتح تحقيقات دولية تؤدي إلى ملاحقة المجرمين، و تمنع عن آخرين بوزن مساوٍ، أو أكبر؟ هل هي السياسة التي تشرّع للحلال والحرام وفق معطيات خاصة وأهداف استثنائية، أم أن الدول الداعية لفتح التحقيقات لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بتلك التعديات سواء كانت أثناء الحرب الباردة، أو القطبية الواحدة، أو أثناءهما؟

نذكر أن محاكمات (نورمبرغ) بعد الحرب العالمية الثانية للنازيين كانت سابقة تاريخية أجمع عليها الخصوم جميعاً، السوفيات، والأوروبيون، والأمريكان، لكننا لا نعلم لماذا فوجئ العالم كله بالتغاضي عن محاكمة امبراطور اليابان quot;هيروهيتوquot; وهو لا يقل بشاعة في إصدار الأوامر وتتبعها بالقتل والإبادات الجماعية، وعن هتلر وموسوليني وفريقيء عملهما، وهذا التساؤل ينصب على أمريكا وحدها، لأنها هي، ولا غيرها، من تولى احتلال اليابان وإدارة سياستها وسن قوانينها ودساتيرها المعمول بها حتى اليوم؟..

المشكلة في ازدواج المعايير أن الأحكام تصدر بأهواء القوة، وليس الحق، ومع أن المحكمة الدولية موجودة، ولديها الصلاحيات التي تبعدها عن التساؤل في قراراتها، إلا أنها خاضعة كلياً لا جزئياً لنفوذ القوى الكبرى، ولذلك حوكم مجرمو صربيا، ومسقطو الطائرة الأمريكية (على لوكربي) ولحقهما صدام حسين وأعضاء حكومته، لكننا لم نسمع عن مقاضاة آخرين لعبوا أدواراً أخطر، وفي عالم حر ديموقراطي، إلا ما يتعلق بالخصوصيات الوطنية، أما جرائم الخارج فيعلن عنها العفو العام أو التجاهل، ويكفي إسرائيل أهم نموذج للجريمة الحديثة بكل أشكالها وشبهاتها..

نعم لفتح منافذ العدالة والدفاع عنها، لكن قانون الغاب حل بديلاً عن حقوق الإنسان إذ تأتي الأحكام دائماً لأمور جزئية، ولا تتعداها لجرائم دول ورؤسائها، وأجهزتها الاستخباراتية التي أطلقت يدها كبوليس سري يقوم بكل الأدوار، وتبعده خصوصيته وحصانته عن أي مساءلة أو تحقيق..