في ضوء استجواب الوزيرة..تفويت التطوير عن طريق تعويق التعليم
محمد الرميحي
في تقرير موسع حول ما يمكن أن يكون عليه الخليج في العام 2025، أصدرته قبل أشهر مؤسسة دولية رفيعة المستوى في الشؤون الاقتصادية هي laquo;المنتدى الاقتصادي العالميraquo; نقرأ عن نتائج محددة فيما سيكون عليه الخليج بعد سبعة عشر عاما، أي في العام 2025. وترى الدراسة التي أعدها ثمانون عالما متخصصا أن مسقبل الخليج في تلك الفترة لن يخرج عن احتمالات ثلاثة هي: إما أن يصبح بلادا صحراوية بالكامل، وإما أن يتحول إلى laquo;واحةraquo; فيها الحد الأدنى من الكفاف، وإما أن يصير laquo;الخليج الخصيبraquo; بمعنى تحوله إلى بلاد مزدهرة تضاهي البلدان الحديثة في الغرب أو في آسيا وأميركا اللاتينية. السناريوهات الثلاثة بنيت على أساس نوعية السياسات التي يمكن أن تتخذها الحكومات والمؤسسات الحاكمة في الخليج، خصوصا لجهة التصرف في المال النفطي الوفير الذي يتدفق على منطقتنا اليوم، وأهمها ما يتخذ من سياسات حول التعليم والتدريب.
ومن دون أن يتجاوز التقرير المطول الكثير من العقبات الإقليمية المحيطة التي يعترف بها، يرى أن أهم عنصر من عناصر تلافي الوقوع في سيناريو laquo;الصحراءraquo; أو حتى laquo;الواحةraquo; والوصول إلى laquo;خليج خصيبraquo;، هو كيفية معالجة التعليم وسياساته في المنطقة، أي كيفية إعداد laquo;رأس المال البشريraquo; الذي به تصل هذه المجتمعات إلى بلورة وإيجاد يد عاملة مدربة عالية المستوى، وإلى برامج بحوث وتدريب نابعة من تلك السياسة العامة. كي يتسنى لهذه المجتمعات، والكويت من بينها، مسايرة العالم المتطور وضمان مستقبل زاهر.
المعلومات والمحاذير التي يذكرها التقرير ليست بعيدة عن رؤية القيادة السياسية في الكويت، لذا فقد اهتم صاحب السمو الأمير الشيخ صباح الأحمد بهذين المنطلقين: التعليم والبحث العلمي، فأوعز بتنظيم مؤتمر عام ينظر في مستقبل التعليم في الكويت، من حيث إعداد الكفاءة والقدرة على مواجهة التحديات، وأيضا تشكيل لجنة عالية المستوى اهتمت بالموضوع وقدمت تقريرها حوله مؤخرا.
كيف ترتبط هذه المقدمة باستجواب وزيرة التربية والتعليم العالي؟
في حقيقة الأمر إن هذا الموضوع بالذات laquo;التعليم والبحث العلميraquo; والذي يرتبط بمستقبل أجيالنا يتم التهوين بشأنه والانحدار به إلى أسفل سافلين من بعض مشرعينا. والاستجواب المقدم إلى الوزيرة نورية الصبيح أبلغ دليل على ذلك، فهو يؤشر إلى أمرين قاطعين: الأول غياب الاهتمام بالتعليم كقاطرة للمستقبل من حيث الجودة والكفاءة، والثاني هذا الفهم السلبي والمغلوط لما تعنيه الديموقراطية الحديثة وممارستها.
قيل الكثير، منذ أن توالى تقديم وزراء تربية كويتيين إلى منصة الاستجوابات، إن آخر اهتمام بعض المشرعين هو laquo;إصلاح التعليم لمواجهة المستقبلraquo;، وإن أول اهتماماتهم هو laquo;تنفيع بعض المصوتينraquo; أو على الأكثر laquo;فرض توجهاتهم الأيديولوجية على مؤسسات التعليمraquo;. والشواهد كثيرة، إلا أن آخرها كان صحيفة الاستجواب التي بين أيدينا، والمقدمة للسيدة وزيرة التعليم. والكثير من النقاط فيها له علاقة بالإدارة والتوظيف، وبعضها خصص لمناقشة التعليم المشترك. أما تحسين نوعية التعليم وترقية مخرجاته وقياس الكفاءة والجودة، فذاك آخر الاهتمامات، بل لعل شأنه هو الغائب والبعيد كليا عن الذهن.. ذهنهم. لنأخذ مسألة التعليم المشترك الذي تطرق إليه المحور الرابع (كمثال)، هناك افتراض غير مناقش وهو أن laquo;التعليم المشتركraquo; ينتج laquo;التفسخraquo; في المجتمع، أو على الأقل laquo;الخلل الأخلاقيraquo;، وهذا بالتأكيد شأن بعيد كليا عن الصحة، وتعميمه خطأ فادح، عدا عن كونه حالة افتراضية في العواطف قبل العقول. فالمرأة الكويتية موجودة في العمل إلى جانب الرجل، وموجودة كذلك في المؤسسات الاقتصادية والتجارية، وهي حاضرة في كل مكان... في الطائرة والمكاتب والأسواق وغيرها، والافتراض أن laquo;وجود الطلاب مع الطالباتraquo; والذي يشرف عليه أساتذة ومربون أفاضل، قد يقود إلى laquo;تراجع العفةraquo;، هو قول غير صحيح على الإطلاق. كما أن فصل الطلاب عن الطالبات في دور العلم لا يعني أبدا الانقطاع التواصلي، في بيئة تنتشر فيها الهواتف النقالة، والإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة، بل إن المنع يجري في أهم مكان مؤمن وهو الفصل الدراسي، ويجري التواصل في الممرات وlaquo;الكافترياتraquo; والمكتبة ومواقف السيارات إلى آخره من الأماكن العامة.
من جهة ثانية، فإن الديموقراطية بمعناها الحقيقي والأوسع هي تزاوج بين فكرتين سياسيتين انبثقتا وتطورتا في المجتمعات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهما: حكم الشعب، وحماية الحريات الخاصة.
الولايات المتحدة الأميركية طورت إبان الحرب الباردة، نوعا من الغاز السام عرف بـ laquo;المزدوجraquo; لم يستخدم قط، وهو عبارة عن نوعين من الغاز، كل واحد منهما على حدة غير مضر، أما إذا اجتمعا معا فإنهما ينتجان ضررا عظيم الخطورة. الديموقراطية على العكس من ذلك، إذا انفصلت فكرة حكم الشعب، عن فكرة الحريات العامة، فإن الضرر هنا يصبح كبيرا بل فادح الكبر. ادولف هتلر جاء عن طريق الديموقراطية، وباسم حكم الشعب خنق الحريات وأدخل البلاد في حرب ضروس أجهز فيها على الملايين، لأنه أسقط المكوّن الأساس الآخر من الديموقراطية التمثيلية، والتي لا تقوم لها قائمة من دونه، ألا وهو الحريات العامة. واسم الديموقراطية ظل محترما بين الشعوب لأنه حقّق هذا التوازن بين الفكرتين، الحريات العامة، وحكم الشعب من خلال ممثليه.
الرغبة في إقامة نظام ديموقراطي صحيح أمر نتوق إليه جميعا، وهو لا يعني أننا توصلنا إلى تحقيق ذلك، فعدم الاعتراف بحقوق الأقلية سواء أكانت إثنية أم دينية أم مذهبية أم عرقية أم حتى فكرية، تطيح بروح الديموقراطية وتعاكس أهدافها. بذا لا تفرض وجهة نظر، حتى ولو كانت أكثرية عددية على سبيل التجاوز على أقلية أخرى، لها رأي آخر في القضية الاجتماعية المطروحة، وهي في الحالة التي بين أيدينا التعليم ذو الأهمية المركزية للتنمية في تقدمنا. عدا أننا لا نتجاوز الأمر بالقول إن الديموقراطية بذلك المعنى لا تستقيم إلا في نظام اقتصادي حر، في قلبه احترام الملكية الخاصة.
فكيف يمكن فرض وجهات نظر تتعلق بمنع التعليم المشترك في الجامعات الخاصة مثلاً، وهي مؤسسات ذات ملكية خاصة، وتعمل وفق نظام السوق؟ وهل يتبع ذلك أننا في وقت قريب سوف نفرض على البنوك أن تتخذ مدخلين، واحد للرجال وآخر للنساء؟.. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجمعيات التعاونية أو معارض السيارات أو حتى على الطائرات المغادرة، وذلك كله ابتغاء العفة!!
الديموقراطية يا سادة تحتاج إلى مؤسسات وبشر لديهم القيم والمهارات، وعلى رأسها قيمة احترام laquo;الحريات العامةraquo;، لأن هناك مزجا بين حكم الشعب وحماية الحريات العامة، وهذا ما جعل للديموقراطية ذلك المذاق الجاذب لشعوب كثيرة، حين تنفصل الحلقتان يصبح المذاق مرا لا بل ومدمرا. بواحد من الجناحين لا تسمى الديموقراطية باسمها، سمها إذاً بأي شيء آخر غير ذلك. والتعليم المشترك مطلب لآباء وأمهات أرسلوا أبناءهم إلى المدراس والجامعات الخاصة، لأن العفة ليست في الشكل ولا في الموقع المكاني، إنها تبدأ في المنزل وفي العقل ولا تغادرهما. فليست السافرات كلهن غير عفيفات، وليست المحجبات كلهن عفيفات أيضا، معظمهن (السافرات والمحجبات) يتمتعن بالعفة، أما الباقي القليل بل والنادر فيسري عليهن ما يسري على البشر من ظلم للنفس، وهي غير ذات عصمة.
فالموضوع المطروح laquo;استجواب الوزيرةraquo; ليس قضية خاصة، بل تحول إلى معركة حقيقية بين أن نتقبل الديموقراطية بجناحيها اللذين تحلق بهما، وهما سلطة الشعب والحريات العامة، أو نبقى مكسوري الجناح ومذعنين لقلة تريد أن تفرض علينا طريقتها في الحياة، وتقودنا حسب توقع التقرير الذي بدأت به إلى مجتمع صحراوي قاحل، مسحوبة منه قيمة العلم والإبداعات الكبرى، التي دفعت بغيرنا إلى أن يحلق عاليا بتطوره وإنجازاته الحضارية.