محمود عبدالغني صباغ |
في عادته اليومية يجلس عمرو كعكي، 24 سنة، بأحد مقاهي شمال جدة، بغية قتل الوقت الثقيل وملء الفراغ الممتد أكثر من مجرد احتساء قهوته. يحدّق عمرو في العابرين تارة، كأغلب الشباب المتناثرين على الطاولات، أو يتجاذب أطراف الحديث مع أقرانه الذي يبدو عشوائيا غير مرتباً. يحلم عمرو، منذ مدّة، بانشاء محطة إذاعية محلية تعنى بالقضايا والاهتمامات الشبابية في مدينته، تقدم المواد الإعلامية في قوالب عصرية غير رتيبة، تمزج بين ساعات موسيقى quot;الهاوسquot; الدارجة التي يجيد عمرو تكوينها ومزجها، وبين البرامج الحوارية المتفائلة. محطة إذاعية تغطي وترعى وتحفز للأنشطة والمناسبات الاجتماعية المصممة للشباب، تتبنى رسائل وحملات إشاعة الوعي الاجتماعي والحضاري، وتشيع من ثقافة البهجة والتسامح، وترّسخ لقيم المحبة والجمال، بين أوساط الشباب. يقول عمرو quot;الشباب هنا مُحبط الى حد كبير، والسبب الرئيس يكمن في غياب المشاريع الثقافية الجذابة. نحن نحتاج للمشاريع الثقافية المصممة لتنمية وتحفيز الشباب. إذ لا يوجد إعلام محلي قائم يلبي رغبات الشباب ويتحدث بلغتهم ومفاهيمهم... إن إقامة مشاريع مثيلة سيرفع الكثير من المعنوياتquot;. لكن ما يلبث عمرو حتى يخبرك باصطدام أحلامه المشروعة، بمحاذير حجز محطات على الأثير، أو موانع إنشاء محطات إذاعية بالداخل، مما يجعله ينضاف إلى إحصاءات المُحبَطين رقماً آخر. إنك على امتداد المدن السعودية، ستجد شباباً مبدعاً، تتنوع دائرة طموحاته، بين إنشاء صحف أو دور نشر، أو الإسهام في إنتاج سينمائي أو مسرحي أو موسيقي، ولكنه لا يجد المؤسسات المتخصصة في رعايته ودعم إبداعه، أو تُعوزه التشريعات الملائمة والمتسامحة. وهو لا يطرق أبواب الأندية الأدبية أو جمعيات الثقافة والفنون القائمة، التي تبدو محملة بوطئة التبعية الرسمية، التي أحالتها مع مرور الوقت، الى محض مؤسسات قاصرة؛ هزيلة الإنتاج وغير جذابة. في كتابه quot;العالم مسطّحquot;، يورد توماس فريدمان قصة الشاب الأمريكي بيل أردولينو بالغة الدلالة عن تغيّر أنماط الإنتاج الإعلامي في تحوّل يكاد يكون مفصلياً. فأردولينو، هو مؤسس صحيفة quot;إن دي سي جورنال quot;، وهي صحيفة مستقلة على الإنترنت تعمل من شخص واحد. كان أردولينو في بداياته يقف على أرصفة إستديوهات الشبكات الرئيسة quot;سي بي إسquot; وquot;إن بي سيquot; وquot;سي إن إنquot; ، ليحصل على مقابلات شخصية مع الضيوف الخارجين منها، ومن ثم يقوم بتحميلها على موقعه على شبكة الإنترنت. كان أردولينو في سبيل إنجاز مواده الإعلامية يستخدم مسجلة رقمية من نوع إم بي 3 (يبلغ حجمها 7 سم في 5 سم) كلفته 125 دولاراً، وهاتفا بكاميرا رقمية لالتقاط الصوّر كلفه مبلغاً مثيلاً، وهو بما يفوق المئتي دولار تقريباً كان باستطاعته أن يصنع الأخبار ويرتقي في سلم التميّز الإعلامي. يقول أردولينو، quot;نبعت هوايتي بأن أكون صحفياً مستقلاً من إحباطي من الجمع الانتقائي والناقص والمتحيّز و/أو غير الكفؤ في وسائل الإعلام السائدةquot;. عندما ساعد أردولينو في إفشاء تفاصيل قضية الصحفي دان راذر أو quot;راذر غايتquot; بإجراء مقابلة مع طبيبه الشرعي الأول عن الحرس الوطني في تغطية سبق فيها صحفاً عريقة كالواشنطن بوست والنيويورك تايمز بيومين كاملين، كان أن حصلت تغطيته تلك، على موقعه، على أكثر من خمس وخمسين ألف نقرة في يوم واحد. تثبت أمثال تلك القصص على أن مشاريع الصحافة المستقلة ومواقع الويب المفتوح للتعليقات، لا يسهمان في تنوع مصادر المعلومات الحالية فحسب، بل في تسطيح الإعلام؛ أي جعله أكثر مرونة وشعبية في مجالات صناعة واستقبال المعلومات. والحقيقة أن تطورات التكنولوجيا والإنترنت، ذللت من أدوات الإعلام ووسائل إنتاج وتنقل المعلومات لتكون متوفرة ومتداولة بين المجاميع بشكل غير مسبوق، مما سيغيّر من مفاهيم الإعلام السائدة للأبد. إن تطبيقات وسيطة مثل اليوتيوب وجوجل فيديو أو مدوّنات الفايس بوك والماي سبيس التي غزت الأوساط الشعبية، أسست فعلاً لمرحلة ومفاهيم إعلامية جديدة كلياً. إن الأمر أشبه بانزلاق الستار الحديدي في احتكار المعلومات عن دول الأنظمة الشيوعية، الذي حصل في منتصف الثمانينات الميلادية، بفضل انتشار أجهزة الفاكس والهواتف وتطبيقات الاتصالات الحديثة وقتها. إن تقاعس المؤسسات الإعلامية والثقافية السائدة عن استيعاب حجم ذلك التغيير وإحداثياته، وزهد التشريعات الحالية في مواكبة المفاهيم العالمية الجديدة منquot;تسطّحquot; بنية الإعلام وإثبات عصيانه للامتثال لأشكال الرقابة والتوجيه والتقييد، سيكلفها تراجعاً هائلاً، ستفقد فيه وظائفها الحضارية وأسسها الربحية . ثم إن توجيه الإعلام وتقعر تشريعاته وتعقدها، وبقاء بنيته على المحددات التقليدية، ذو أثر سلبي على الحراك والإنتاج الثقافي والإنساني المباشر في تلك المجتمعات. في مزاد دار كريستي للفن الإسلامي المعاصر، الذي أقيم في دبي في أكتوبر الفائت، كنت أتوسل رؤية عمل واحد لأي تشكيلي أو نحّات سعودي معاصر، ولكن دون جدوى. إذ يبدو أن فنون التشكيل والنحت، ذات الطابع الإسلامي، صارت حكراً على فناني الغرب وفناني الدول الإسلامية من إيران وسوريا ومصر التي كان حضور ممثيلها طاغياً، دون أي تمثيل من بلاد مبعث الرسالة الإسلامية ذاتها. طبعاً الآخر هنا، ستترسخ في ذهنيته صورة قاتمة جداً عن الحراك الثقافي والملكات الإبداعية والجمالية لدى إنسان السعودية، فالذهنية، أي ذهنية الآخر، ستحمل موقفاً عفوياً يربط فقر الإنتاج الثقافي والجمالي في هذه البلاد بفقر مباشر في قدرات إنسانه ومنظومته القيمية، إذ حتماً لن يتم ربط ذلك الغياب بضعف وغياب المؤسسات الثقافية وتغوّل الرقابة وسطوة المحددات الأبوية. وهنا تبدو خسارتنا المزدوجة. إن الصيغة المعمول بها في تنمية الثقافة المحلية هي المسؤولة عن مثل هذه الغيابات المخجلة. ونحن إذا قاربنا الصيغة الرسمية في تقديم المنتج الثقافي المحلي لجمهور الخارج، أو ما يعرف بـquot;الأيام السعوديةquot;، فإنها وإن بدت اجتهادا رائداً، لكنها في حقيقة الأمر، تفرّغ مفهوم التواصل المستمر من محتواه. فالمناسبة التي تقوم بتجميع الفعاليات الثقافية المتفرقة في أيام محددة وبغلاف واحد، تبدو للآخر مُكرّسة ولحظية وفي صورة أقرب إلى الدعائية، فيما إن، الجهات الإشرافية الرسمية، لو سعت منذ البداية إلى تهيئة أسباب التواصل والاستمرارية، وسعت الى زرع بذور الاستقلالية وروح المبادرة والحريات في البيئة الداخلية، لاستحال الحضور الثقافي دولياً: دائماً وعاماً، منوعاً ومثمراً ومعتداً بذاته حتماً. في تقرير الصحفي محمود تراوري عن أوضاع المؤسسات الثقافية الرسمية (الوطن عدد 2661)، شهادة أخرى على إخفاق صيغ التنمية الثقافية الرسمية الموجّهة؛ فالمباني مستأجرة، والموارد شحيحة، والأنشطة فقيرة غير جذابة، والإنتاج هزيل، والطموحات الكبرى مؤجلة، أما الصورة الفوتوغرافية التي رافقت التقرير، وكانت لمقر جمعية جدة للثقافة والفنون، بأسواره العالية بغية quot;عدم إزعاج الجيرانquot;، إنما دلالة هائلة عن مأتم الثقافة المحلية وتنافرها مع المجتمع وإنسانه. إن ما يجلب التشاؤم، هو أن الصيغ الرسمية المطروحة لانتشال أوضاع الثقافة الخائبة، لا تتعدى نقد بيروقراطية وزارة المالية وسياسات الصرف، أو في ربط الخلاص بتبرعات رجال الأعمال والغرف التجارية ، فيما لا يتحدث أحد عن حتمية إلغاء تبعية المؤسسات الثقافية للجهات الرسمية أو في تغيير يمسّ محددات وأطر النظام الأبوي الصارم الذي تخضع له. إن تفتيت محددات النظام الأبوي القديم، من تسطيح أبنية الإعلام وتذليل وسائل الإنتاج الثقافي، بجعلهما أكثر مرونة وتداولاً واستغلالاً، كفيل بتنمية الإنتاج الثقافي، وارتباطه بالواقع الإنساني والاجتماعي، وحتى، تأثيره على قوى السوق بشكل أكثر ملاءمة وجاذبية. ولأن روزنامة الوزارة، التي تشهد تطورا نوعيا في الفترة الأخيرة، تبدو مزدحمة جداً، فإن الأولوية هنا يجب أن تكون بالمراهنة على المجتمع المدني ومبادرات الأفراد والجماعات وطاقات الشباب، في إحداث التغيير. إن الوزارة مطالبة بتحرير القطاعات الإعلامية المقيّدة، ومنحها أسباب الاستقلالية والاستمرارية والجاذبية، كما تطوير التشريعات السائدة، بالرهان على توسيع آفاق الحرية والتعاطي المرن المشاع وهوامش الوعي المختلف. إن ذلك كفيل بخلق روحيات التعاون والمبادرة والعمل الخلاّق، وقمين بجعل المحصول الثقافي المباشر أعلى إنتاجية وأعمّ تواصلاً، وأخصب تنوعاً. في نهاية حديثي مع صديقي عمرو، نبهني إلى أنه في مدينة دبي وحدها، يوجد ما يقارب عشر محطات مثيلة كالتي يرغب في إنشائها لشباب مدينته. حقاً يا للخسارة. |
- آخر تحديث :
التعليقات