عبد الباري عطوان

ان تدين حكومة العراق الجديد التي يتزعمها السيد نوري المالكي التوغل العسكري التركي في اقليم كردستان العراق، وتصفه بانه انتهاك لسيادة البلاد، فان هذه الادانة المتأخرة علي اي حال، تعكس مفارقة مغرقة في السذاجة والضحك علي النفس وخداعها، لان ما يعرفه مطلقو هذه الادانات ان السيادة في عراقهم تمرغت في وحل الاحتلال وموبقاته منذ دخول اول جندي امريكي غازيا لبلادهم.
من حقنا ان نسأل الحكومة العراقية ورئيسها عن الفرق بين التوغل التركي والغزو الامريكي في رأيهم، ولماذا هذا التوغل التركي المحدود والمؤقت مدان بينما الغزو الامريكي مرحب به، ويحظي بكل مظاهر التقدير والاحترام؟
نحن مع سيادة العراق، ومع المدافعين عن وحدة ترابه، ونعارض وجود اي جندي اجنبي علي ارضه، ومن هذا المنطلق ندين التوغل التركي، ونتضامن مع الاشقاء الاكراد في مواجهته، ولا نقبل بالاعذار التي استخدمت لتبريره. ولكننا ضد الاحتلال الامريكي الذي هو ام المصائب التي حولت هذا البلد الي ارض مشاع مفتوحة علي مصراعيها لتدخلات دور الجوار، تركية كانت او ايرانية.
من العيب ان يتحدث اي مسؤول عراقي عن انتهاك الاتراك لسيادة بلاده وهناك 170 الف جندي امريكي ينتشرون علي ارضها، ولولاهم لما بقيت حكومته يوما واحدا في المنطقة الخضراء التي لا تستطيع مغادرتها، ويحتاج انتقال افرادها الي المطار الي احتياطات امنية لا يوجد لها مثيل في اي مكان آخر في العالم. فعندما تعجز حكومة عراقية ومعها 170 الف جندي امريكي و200 الف من قوات الامن، و80 الفا من قوات الصحوة، وعدد مماثل من الميليشيات عن تأمين طريق المطار، فانه لا يحق لها مطلقا التلفظ بكلمة السيادة هذه.
العراقيون يجب ان يحمدوا الله لان هذا التوغل التركي المدان قد وقع حتي يكتشفوا الكذبة الكبري التي يعيشونها، والاكراد منهم علي وجه الخصوص، واول عناصرها ان لهم حكومة ووزراء وبيشمركة، وسفراء، ومستشارا للأمن القومي، وضباطا كبارا تتلألأ النجوم علي اكتافهم، وتزدحم انواط الشجاعة واوسمتها علي صدور بزاتهم العسكرية.
ولعل الكذبة الاكبر، تلك التي تقول ان الجنود الامريكيين جاءوا لحمايتهم وحفظ ارواحهم، فالقوات الامريكية التي من المفترض ان تدافع عنهم في وجه اي توغل عسكري خارجي، التزمت الصمت المطبق تجاه هذا الغزو التركي، وادارت وجهها الي الناحية الاخري، بل واعطت حكومة الرئيس بوش الضوء الاخضر للاتراك لشن هجماتهم وانتهاك الارض العراقية، ونتمني علي الذين رقصوا طربا من الاشقاء الاكراد في كردستان العراق وخارجها استقبالا لـ المحررين الامريكان ان يقفوا وقفة صدق مع انفسهم، ويراجعوا موقفهم، ويخرجوا من هذا الحلم الامريكي الكاذب الذي عاشوا في ظله طوال السنوات الست الماضية.
ہپہپہ
انها لعبة امم جديدة، ضحاياها هم الشعوب الصغيرة، فالحليف التركي الاستراتيجي يتقدم علي الحليف الكردي الصغير بالنسبة الي ادارة الرئيس بوش. وعلي اي حال ليست هذه هي المرة الاولي التي تضحي فيها الادارات الامريكية بالأكراد بعد ان تستخدمهم لتحقيق بعض اهدافها الاستراتيجية، فالتاريخ الحديث حافل بالعديد من الامثلة والتجارب المريرة في هذا الصدد.
ادارة الرئيس بوش استخدمت الاكراد بطريقة بشعة تماما، مثلما استخدمت بعض العراقيين من مختلف الملل والطوائف، ملوحة بالمال تارة والشعارات الكاذبة بالتحرير والديمقراطية وحقوق الانسان تارة اخري، وذلك للوصول الي هدف احتلال العراق، والاستيلاء علي ثرواته النفطية، وتدمير طموحاته العسكرية التي تهدد مخططاتها هذه في الهيمنة مثلما تهدد حليفتها الأوثق اسرائيل.
سجل الاحتلال الامريكي للعراق مخجل بكل المقاييس ليس للامريكان فقط وانما لحلفائهم العراقيين ايضا، فتقارير الامم المتحدة تقول ان هناك اربعة ملايين جائع في العراق، وخمسة ملايين طفل يعانون من سوء التغذية، وستة ملايين عراقي مشرد نصفهم في دول الجوار علي الاقل، ناهيك عن مليون شهيد سقطوا منذ الاحتلال واربعة ملايين جريح.
أليس من المفارقة ان جميع شعوب الدول المنتجة للنفط تعيش حالة من الازدهار غير مسبوقة بسبب ارتفاع اسعار النفط، باستثناء الشعب العراقي الذي تحوّل نفطه الي لعنة عليه، وكان احد ابرز اسباب غزوه واحتلاله حسب اعتراف الن غريسبان وزير الخزانة الامريكي الذي كان في حكومة بوش اثناء الغزو وبعده؟
نعم هناك مجموعة استفادت من النفط العراقي من القطط السمان من قادة الميليشيات والوزراء وابنائهم وانسبائهم، حيث نهبوا المليارات، وهرّبوها الي خارج البلاد، وبزيارة سريعة الي لندن ودبي وعمان وبيروت وباريس يمكن مشاهدة كيفية الاستمتاع بهذه الاموال بطرق يخجل منها امراء الفساد في اكثر من دولة خليجية وعربية، وهذا ما يفسر احتلال العراق المرتبة الاعلي علي قائمة الدول الاكثر فسادا.
ہپہپہ
الدكتور احمد الجلبي الذي يعتبر احد ابطال التحرير ومن ابرز المنظّرين للغزو الامريكي، اعترف، وهذا يحسب له، بان الطبقة السياسية، وهو منها، فشلت في اقامة حكم، وادارة الدولة، بعد سقوط الرئيس السابق صدام حسين، وقال في لقاء مع شخصيات عراقية في لندن (بالمناسبة معظم قادة العراق الجديد موجودون فيها حاليا) ان العملية السياسية الحالية فقدت شرعية حكمها بسبب وجود قاعدة شعبية تستند اليها، وان ما تعتمد عليه الآن في ادارة البلاد مستمد من الحالة الطائفية التي افرزتها العملية الانتخابية السابقة، وتحدث عن الفساد بإسهاب وقال ان البطاقة التموينية لم تصل الي بعض المناطق منذ ستة اشهر.
حكومة السيد المالكي تخطط حاليا لالغاء هذه البطاقة التموينية، الشيء الوحيد المتبقي من ارث النظام السابق، والتي لولاها لمات عدد كبير من العراقيين جوعا، ومن المفارقة ان المستر دينيس هاليدي الايرلندي مسؤول الامم المتحدة السابق في العراق والمشرف علي توزيع الأغذية اثناء الحصار، اعترف بانه رغم الحصار الجائر، استطاع النظام السابق ان يوصل الحصص الغذائية الي كل اسرة عراقية في اليوم الاول من كل شهر، ولم تشتك اسرة واحدة من عدم وصول حصتها في موعدها طوال فترة وجوده في العراق. والرجل ما زال علي قيد الحياة، ومن اكثر المعارضين للاحتلال الامريكي ووثق شهادته في كتاب.
لا نعتقد ان الدكتور الجلبي في كلماته هذه يريد ان يقدم شهادة لصالح النظام السابق، ولكنه بدأ يدرك حجم الدمار الذي لحق بالعراق علي ايدي النخبة السياسية التي تعاونت مع القوي الاجنبية المحتلة تحت زعم انقاذه.
السيادة في العراق كذبة كبيرة بل ان العراق الجديد نفسه اصبح اضحوكة ، فطالما ان رئيس الوزراء العراقي هو آخر من يعلم بوصول المسؤولين الامريكيين الي مطار بغداد، وآخر من تتم استشارته حول بقاء القوات الامريكية، او سحب جزء منها، وآخر من يعرف اعداد ما يسمي بقوات الصحوة، ويرأس وزارة بلا وزراء فان عليه ان يبتعد عن الاشارة، ولو علي استحياء، الي مسألة السيادة هذه ومنتهكيها.