خالد الحروب

يحار المرء من هذا الواقع العربي المرير, وتحديداً من هذه الشعوب العربية التي صارت لها معادلة غريبة وبطيئة في الاستجابة للأمور الجسام... ومعادلة أخرى سريعة ومنتفضة إزاء الأمور الهامشية. ما هو quot;باروميترquot; تحرك quot;الشارع العربيquot; وquot;الإسلاميquot; أيضاً, ولماذا ينتفض من المحيط إلى الخليج ضد رسام كاريكاتير أرعن في الدانمرك ويخلق قضية من لا شيء, ويسيِّر المظاهرات والاحتجاجات التي يسقط جراءها قتلى وجرحى, ثم يلفه صمت القبور إزاء قضية حقيقية مثل quot;المحرقةquot; الدائرة ضد الشعب الفلسطيني في غزة هذه الأيام, ما عدا بعض التحركات الخجولة هنا وهناك؟ لكن لماذا نلوم الشارع ولا نلوم الأنظمة؟ لأننا ببساطة نفضنا أيدينا منذ زمن طويل من النظام الرسمي العربي الغارق في خلافاته الداخلية, المتصارع على البقاء والسلطة, اللاهي في ترتيبات الدفاع عن الوضع القائم على علاته وكوارثه وفضائحه التي تتعدى الحصر. غير أن ما يظل مدهشاً حقاً هو غيبوبة الرأي العام العربي وعدم فعاليته وقبوله بتلك العلات والكوارث والفضائح.

يسكت هذا quot;الشارعquot; العتيد عن الديكتاتوريات التي تغتصب لقمة عيشه، ولا يعتبر الحريات قضية مصيرية تستحق الخروج إلى العلن للتظاهر من أجلها. يسكت هذا quot;الشارعquot; عن نهب الثروات والفساد الذي يسمم كل الفضاء العربي ولا يخرج فقراؤه مطالبين بحقهم في الحياة الكريمة. يسكت عن إهانات إسرائيل ولطماتها شرقاً وغرباً, تعلن حرباً على هذا البلد, وتقصف موقعاً في ذلك البلد, وتدير حصاراً على غزة, وتخنق مليوناً ونصف المليون من المدنيين, ولا يزحزح ذلك في وعيه المنقوص مفاعيل الرفض والانتفاض. تجيء جيوش وأساطيل تحتل بلداً عربياً وتتسبب في قتل ما يقارب ثلاثة أرباع المليون وتهجير ملايين آخرين, وتجعل منه بؤرة لكل مجانين التطرف في العالم, ولا يهتز لذلك. ما يحركه ويخرجه عن طوره المتمطي والمتثائب هو قرار مدرسة ابتدائية في قرية ألمانية نائية بحظر حجاب مُدرّسة, أو كتاب لمؤلف مغمور أراد شهرة فكتب بمكر quot;ما يستفز مشاعر المسلمينquot;, أو مقال في صحيفة مجهولة فيه انتقاص لهذا الأمر أو ذاك من النص أو المقدسات.

تُرى ما الذي يثير رب العباد وخاتم أنبيائه أكثر، سيل الدم المراق الآن في غزة أم رسوم الكاريكاتير في الدانمرك؟ مئات ألوف الضحايا في العراق أم حجاب تلميذة مدرسة في فرنسا؟ مئات الألوف من الأبرياء في دارفور أم تصريح لسياسي عنصري في أوروبا لا يرقى وعيه لنصف مثقف؟ تراكم التخلف والإذلال والفساد في بلاد المسلمين وتبوؤهم ذيل قائمة الأمم في العالم أم quot;آيات سلمان رشدي الشيطانيةquot;؟ ما الذي يحدث بالفعل للعقل الجمعي العربي، وللعقل المسلم، في عالم اليوم وبسببه تنقلب الأولويات رأسا على عقب ويصبح هامشي القضايا مؤهلاً ليحرك ملايينها ويثير فيها كل الغرائز, فيما مركزيها لا يحظى بعشر ذلك التحرك ولا هباته الجماعية؟

ما يحدث في غزة هذه الأيام من إجرام إسرائيلي نازي يراه القاصي والداني متلفزاً بالصوت والصورة الدامية والنشيج المتواصل يفترض أن يزحزح quot;جبال الأخوةquot;. ليس هناك quot;غموض في القضيةquot; كما يمكن التعذر في حالات أخرى (وهو تعذر مرفوض أصلاً). هنا قضية احتلال وبطش عسكري من قبل عدو متوافَق على صفته تلك, فلماذا يلف ملايين العرب والمسلمين هذا الشلل المخزي؟ هل هناك مشكلة عضوية في الوعي, أم في العقل, أم في الثقافة السائدة؟ وهل صحيح أن quot;الخوفquot; من الأنظمة الأمنية القابضة على زمام الأمور في بلدان العرب والمسلمين هو السبب القوي وراء هذه الحالة المرَضية؟ لكن لماذا يتم تحدي ذلك الخوف عندما تهبط علينا قضية هامشية فنُرغي ونُزبد ونقدم quot;شهداءquot; من أجلها؟

من يملك الإجابة على هذا السؤال الكبير والمحبط؟ ولماذا كان عرب الأمس القريب أكثر حساسية للقضايا الكبرى ويخرجون إلى الشوارع ويدفعون بحكوماتهم لاتخاذ هذا الموقف أو ذاك, فيما عرب اليوم, وفي عز ازدهار الإعلام الفضائي العابر للحدود, يتمترسون في بيوتهم يتابعون الكوارث الكبرى على شاشات التلفزيون لحظة بلحظة, لكن لا يتحركون؟ ما الذي حدث وما الذي أحدث الاختلال الكبير في موازين القضايا؟ أهو الإحباط العام, أهو فشل النظريات والأيديولوجيات الكبرى, قوميُّها, ويساريُّها, ثم الآن إسلامويُّها؟ لكن إن كانت الهزائم هي القاسم المشترك الأعظم بين المراحل القومية واليسارية والإسلاموية, فلماذا على أقل تقدير كان الوجدان الجمعي أكثر حساسية للقضايا الكبيرة في المراحل السابقة, فيما انحط هذا الوجدان في المرحلة الإسلاموية الراهنة ليصير محكوماً بالقضايا التافهة؟

صحيح أن دم غزة المُراق لن توقفه مباشرة مظاهرات واحتجاجات شعبية, لكن مَن قال إن خروج مئات الألوف من المحتجين والمتظاهرين في طول وعرض البلدان العربية, فيما لو حدث, لن يؤثر على منع تواصل الجريمة ويعمل على إيقافها تدريجياً؟ ومن يستطيع أن يجادل في حقيقة أن السكوت العربي المتوقع إثر أي جريمة إسرائيلية صار عاملاً من العوامل المشجعة للسياسة الإسرائيلية لاتخاذ أشرس القرارات وأكثرها وحشية، من دون أن تتوقع رداً أو حتى ضغطاً شعبياً؟ بل وأقله من يستطيع أن يجادل في أن بروز غضب شعبي جارف يكون له تأثير على الدعم الأعمى والعنصري القادم من واشنطن والتواطؤ والتعامي القادم من بروكسل؟ ما يُراد للعالم الخارجي رؤيته الآن,عبر آلة الدعاية الصهيونية, هو quot;حرب دفاعيةquot; تقوم بها إسرائيل quot;المُهدد وجودها!quot; من قبل صواريخ بدائية تُطلق منها ببلاهة مئة صاروخ حتى تصيب مدنياً إسرائيلياً واحداً فتقوم قيامة إسرائيل والغرب من ورائها. أما عشرات المدنيين من الفلسطينيين الذين تقتلهم إسرائيل قبل ذلك وبعده ثأراً وانتقاماً، ومئات الجرحى الذين تدمر بيوتهم فوق رؤوسهم ورؤوس أطفالهم، فهم مجرد أرقام عابرة. ليس هناك تجسيد لأقذر أنواع العنصرية أكثر من أي موقف quot;يتضامنquot; مع ضحية إسرائيلية واحدة ويتعجرف عن إبداء عُشر ذلك التضامن مع مئات الضحايا الفلسطينيين.

إن قلنا إن هناك ألف سبب وسبب للمواقف الرسمية الأميركية والغربية العنصرية, فكيف لا تحرك هذه العنصرية الطافحة ضد الفلسطينيين الشارع العربي ليغلي في عروق بشره الغضب؟ هل يتحمل السياسيون الفلسطينيون بلا استثناء, وخاصة quot;فتحquot; وquot;حماسquot;, وسياستهم المراهقة مسؤولية الانفضاض التضامني في الشارع العربي والإسلامي إزاء القضية الفلسطينية؟ نعم جزئياً, لكن ذلك لا يفسر ثقل وطأة الصمت واتساع نطاقه والتمسك بالسكوت واللافاعلية المدهشة الراهنة. كيف يمكن أن نأمل بمستقبلات أقل قتامة لمنطقة وشعوب لا يشكل الرأي العام فيها أي عامل تأثير معقول إزاء القضايا الكبرى, لكن يمكن إثارة غرائزه وتوجيهها وتوظيفها عبر quot;الريموت كنترولquot; تجاه أية قضية تافهة هنا أو هناك؟