جيفري كمب

في الثاني والثالث من مارس الجاري، سجّل الرئيس الإيراني زيارة رسمية إلى العراق، حيث تم استقباله رسمياً وبما يليق به بصفته رئيساً لدولة تعد جاراً مهماً للعراق، إلى جانب كونها الشريك التجاري الأكبر، فضلاً عن أنها أكبر وجهة يفد منها الزوار الأجانب لزيارة الأماكن والمزارات الشيعية العراقية المقدسة. يذكر أن على رأس المستقبلين العراقيين للرئيس الإيراني الزائر، نظيره العراقي جلال طالباني. وخلال الاجتماعات المشتركة التي عقدت مع القيادات العراقية، بمن فيها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، تم التوصل والتوقيع على عدد من الاتفاقات بين الطرفين، منها اتفاق بشأن مشروعات الاستثمار المشتركة، واتفاق آخر بشأن إقامة مناطق تجارة حرة بين الجانبين، وكذلك الاتفاق على مشروع إنشاء مطار دولي جديد في العراق، لتذليل حركة ونقل الحجيج الإيراني القادم لزيارة الأماكن المقدسة في مدينة النجف. غير أن جميع هذه الاتفاقات لم تشمل التوصل بين الجانبين إلى أي قرار رسمي بشأن قضية الأسرى ومفقودي حرب الثماني سنوات التي دارت بين الطرفين في ثمانينيات القرن الماضي، على الرغم من أنها تمثل المسألة الأكثر إثارة لعواطف الطرفين معاً.

هذا وقد أشارت التقارير الأولية الصادرة عن هذه الزيارة، إلى مفارقات كبيرة بينها وبين زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش للعراق، في أذهان العراقيين. فالمعلوم عن بوش أنه لم يتخط المنطقة الخضراء الشديدة الحراسة والإجراءات الأمنية شبراً واحداً، كما لم يمض ليلة واحدة داخل العراق، إذ غادره في نفس اليوم الذي وصل فيه. وعلى نقيضه تعمّد نجاد تفادي المنطقة الخضراء، طالما أنها ستفرض عليه أن يكون تحت حراسة القوات الأميركية. وبدلاً من هذه القوات، تكفّل الجيش الوطني العراقي بتوفير الحماية اللازمة للرئيس الإيراني، بينما تم نقله من مطار بغداد الدولي إلى داخل المدينة بالسيارات وليس بالطائرات العمودية على نحو ما حدث أثناء زيارة بوش للعراق.

وإلى هذا الحد يكون نجاد قد أنجز أحد الأهداف التي رمى إليها، ممثلة في تحديه العلني للسياسات الأميركية أثناء وجوده في بلد حررته الولايات المتحدة الأميركية من قبضة صدام حسين.
على أنه من الغفلة والضلال بمكان، الاعتقاد بأن الزيارة كلها كانت نصراً مؤزراً لنجاد. والدليل أنه لم يتمكن من زيارة مدينتي النجف وكربلاء، على الرغم من أنهما المزاران الأكثر قدسية للشيعة. كما أنه لم يتمكن من ترتيب لقاء مشترك بينه وبين الزعيم الشيعي آية الله علي السيستاني. ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة quot;نيويورك بوستquot;، فقد كان ثمة اجتماع كهذا مرتقبا بين الطرفين، إلا أن السيستاني رفض أن تلتقط أي صور خلاله، إضافة إلى عدم موافقته على اختتام ذلك اللقاء بأي تصريح كان. ليس ذلك فحسب، بل أغضبت زيارة نجاد هذه، الكثير من العراقيين الذين يحتجون على التدخل الإيراني في شؤون بلادهم، واستهجنوا أن يعطى محمود أحمدي نجاد كل تلك المعاملة الرفيعة المستوى التي حظي بها أثناء زيارته. وقد عبّر ذلك الغضب الشعبي عن نفسه، بتنظيم تظاهرات احتجاجية في المناطق السنية، إضافة إلى تنظيم تظاهرات مماثلة في بعض المناطق الشيعية بجنوبي العراق، بما فيها مدينة البصرة.

وعليه فإنه من الواجب النظر إلى هذه الزيارة على خلفية تزايد القلق الإيراني على الطريقة التي تحقق بها الاستقرار النسبي في بعض الأنحاء العراقية مؤخراً. وأكثر ما يقض مضجع إيران ومؤيديها العراقيين هو تنامي عدد المليشيات السنية الجيدة التمويل والتسليح، التي واصلت الولايات المتحدة دعمها طوال العام الماضي، ضمن جهودها العسكرية الجارية ضد تنظيم quot;القاعدةquot; هناك. وكان من مصلحة إيران ابتداءً أن ترى تنظيم حملة ناجحة ورادعة لتنظيم quot;القاعدةquot; في العراق، إلى جانب تمتع طهران بتأييد عسكري واضح من قبل المليشيات الشيعية، بما فيها quot;جيش المهديquot; الذي يقوده مقتدى الصدر، الذي يقاتل كلاً من القوات الأميركية والمليشيات السنية quot;البعثيةquot; على حد سواء. غير أن إيران تخشى حالياً من نمو مليشيا قوية وناشئة حديثاً تعرف باسم quot;مجالس الصحوةquot;، وهي مليشيا سنية تدعمها الولايات المتحدة. مع العلم أنه لن يتم دمجها في نهاية الأمر داخل صفوف الجيش النظامي الذي تغلب عليه العناصر الشيعية، ما يعني أنها ستشكل خطراً على التجمعات السكنية للشيعة، لاسيما في العاصمة بغداد. وما لم تحل المعضلة المتعلقة بكيفية الحد من خطر هذه المليشيا الناشئة، فليس مستبعداً أن تلجأ إيران إلى الدعم الصريح للمليشيات الشيعية الموالية لها، في إطار سعيها للحفاظ على توازن القوى العسكرية الداخلية، خارج إطار مؤسسة الجيش العراقي الرسمية.

غير أن خطوة كهذه، تهدد مجدداً باستئناف موجة العنف الطائفي الوحشي، الذي استشرى طوال العام الماضي وحتى الأشهر الأولى من بدايات العام الحالي، أي حتى قبيل بدء ظهور النتائج الإيجابية لاستراتيجية زيادة عدد القوات التي نفذتها الولايات المتحدة.

وفيما لو حدث تجدد لموجة العنف على هذا النحو، فإنه سيكون انتكاسة سيئة للولايات المتحدة الأميركية، بقدر ما تتضرر منه إيران نفسها، طالما أن تجدد العنف سيطعن في مصداقية حكومة نوري المالكي، خاصة وأن هناك من المؤشرات ما يفيد بتحسن المناخ الملائم لإحراز النمو الاقتصادي والاستقرار الأمني في بلاده. أما الضرر الذي قد يترتب عن ذلك بالنسبة لإيران، فيتلخص في أن من شأن تطور من ذلك النوع، أن يزيد من مخاطر مواجهة عسكرية لا تزال محتملة بين كل من واشنطن وطهران، خلال الأشهر الأخيرة من ولاية بوش. هذا وتتزايد المخاوف من إمكانية لجوء الإدارة، في مثل هذه الحالة، إلى استخدام القوة العسكرية ضد كل من قوات الحرس الثوري والبرنامج النووي الإيرانيين.