محمد نورالدين
تركيا تغلي. لا يمكن لأحد ان يتنبأ بما سيجري في هذا البلد الملفوف بمكوك من المشكلات الحقيقية والمصطنعة منذ ما يقارب الثمانين عاما.
آخر ما شهدته البلاد من احداث سياسية ما كان يخطر على بال احد.
مدعى عام الجمهورية عبدالرحمن يالتشينكايا يطلب حظر حزب العدالة والتنمية ومنع قادته بمن فيهم رئيس الجمهورية من العمل في السياسة لمدة خمس سنوات.
أما التهمة فهي ممارسات وتصريحات لأعضاء في الحزب تتناقض مع مبدأ العلمانية المنصوص عليها في الدستور.
والأكثر خطورة وغرابة ان حزب العدالة والتنمية هو الممسك بتلابيب السلطة منذ العام2002 ، ومع كل انتخابات نيابية او بلدية تحدث كان الحزب يضاعف اصواته بحيث وصلت في الصيف الماضي الى47 في المائة بفارق27 في المائة عن الأصوات التي نالها اقرب المنافسين له حزب الشعب الجمهوري.
ومع ذلك يأتي المدعى العام يطلب من المحكمة الدستورية حظر الحزب الأكثر شعبية في البلاد الذي قدم ممارسة وسلوكا ديمقراطيا غير مسبوق من قبل اي حزب في تاريخ البلاد. بل كان وهنا المفارقة الحزب الذي قاد تركيا خلال سنتين الى مفاوضات العضوية مع الاتحاد الاوروبي في حين عجز عن ذلك العلمانيون على امتداد اربعين سنة.
من هذه الزاوية لا يمكن ان نفهم قرار المدعى العام سوى انه خطوة اولى من اجل تصفية حزب العدالة والتنمية للتخلص من جملة quot;تهديداتquot; يشكلها الحزب على النخب الكمالية، المدنية والعسكرية:
1- ان حزب العدالة والتنمية مشروع لحاضر تركيا ومستقبلها وليس مجرد سلطة.
2- من خلال الممارسة على امتداد خمس سنوات يتبين انه رغم الجذور الاسلامية للحزب فانه كان ملتزما بمبدأ العلمانية. والواقع انه يقارب العلمنة بمنظور جديد ينسجم مع ما هو متعارف عليه في اوروبا وامريكا وليس كما يمارس من قبل النخب الكمالية المتشددة في تركيا التي تعتبر اكبر منتهكة لمبدأ العلمنة الحقيقية.
إن تطوير مفهوم العلمنة بشكل يجعله انسانيا ويحترم الحريات هو نقطة الخلاف الأساسية مع حزب العدالة والتنمية. وهم يريدون برفع دعوى اغلاقه استمرار التفسير الوحشي للعلمنة بصورة تضمن استمرار تحكمهم بالعباد والبلاد.
3- إن مبدأ الديمقراطية يعني قبل اي شيء الاحتكام للشعب والانحياز لهمومه. ولعل حزب العدالة والتنمية كان الأكثر جذرية في اللجوء الى الشعب عند المنعطفات الحادة وكان يكسب فيها. ومنذ خمس سنوات تذوب تدريجيا اصوات الأحزاب العلمانية ولا سيما حزب الشعب الجمهوري وحزب اليسار الديمقراطي بحيث لا يتجاوز حجم الكتلة الشعبية للعلمانيين العشرين في المائة. ان دعوى حظر حزب العدالة والتنمية هى فعل انقلابي موجه ضد استمرار الديمقرطية في تركيا.
4- لقد فضح حزب العدالة والتنمية بالخدمات التي قدمها الطبقة السياسية الفاسدة التي كلفت تركيا خلال التسعينيات اكثر من مائتي مليار دولار هدرا. والجميع يعترف بالدور الانقاذي لحزب العدالة والتنمية للاقتصاد التركي وضرب التضخيم وتعزيز الاستثمار وما الى ذلك. بالطبع لا يمكن ان يكون النجاح كاملا في بلد مثقل بالمشكلات الموروثة والمزمنة. لكن تصفية حزب العدالة والتنمية لا يمكن الا ان يؤدي الى زعزعة الاستقرار الاقتصادي. وهو هدف رئيسي من وراء الدعوة على حزب العدالة والتنمية. ان خلق اجواء متوترة هو السبيل الوحيد لاضعاف الاقتصاد ومن خلفه سلطة حزب العدالة والتنمية.
5- لقد نجح حزب العدالة والتنمية في اقامة افضل العلاقات مع دول الجوار ولا سيما سوريا وايران وروسيا والعالم العربي كذلك فتح امام حلحلة في قبرص واليونان. ان المتضررين من تقوية وضع تركيا الاقليمي يقفون حتما امام محاولة تصفية حزب العدالة والتنمية.ان قول البعض في تركيا ان quot;الامبريالية العربيةquot; (!) هي تهديد لتركيا اكبر مثل على تلك النزعات العنصرية التي لا يستفيد منها سوى اسرائيل.
6- اما قول المدعى العام السابق فورال ساواش ان امريكا واوروبا لن تسمحا بإسقاط اردوغان بسبب علاقاته مع اللوبي اليهودي في امريكا فمحاولة خسيسة لتعمية الحقائق حول رجل كان نموذجا لأفضل العلاقات مع العرب الذي وصف سياسة ارييل شارون بأنها ارهاب دولة الذي كان quot;الأكثر عروبةquot; من بين الزعماء العرب في الموقف المندد بالعدوان الاسرائيلي في يوليو 2006.
7- واذا كان من خاسر مما تشهده تركيا من quot;اضطرابquot; سياسي فهو حاضرها ومستقبلها. تركيا لا تستحق ان تفجّر مسيرتها بقيادة حزب العدالة والتنمية من جانب طغمة لا تزال تعيش ذهنية بدايات القرن العشرين في معالجة القضايا الدينية والقومية والاجتماعية والفكرية.
تركيا امام مفترق طرق. تنجو اذا بقي العدالة والتنمية في السلطة ضمن السياق الديمقراطي وتغرق اذا اطيح به. وللشعب الدور الحاسم في ترجيح الخيار ورسم المسار.
التعليقات