جميل النمري
قرأت كلاما عاطفيا وملحميا مؤثرا عن سقوط بغداد بمناسبة الذكرى الخامسة، لكن ما حدث فعلا لم يكن ملحميا بل مفجعا فقط، والناس التي انتظرت quot;معركة بغدادquot; ظلّت تسأل مذهولة ما الذي حصل؟
لم يحصل شيء في الحقيقة فقد كانت المأساة قد استهلكت فصولها قبل دخول قوات الاحتلال. ألوف لم نعرف عددها ابدا من جنود العراق قتلت على الأرض، بعيدا عن أعين الكاميرات، ودون أن تتمكن (إلا نادرا) من القتال بعيدا أو قريبا من بغداد وأُحرقت مئات الدبابات وتبددت الفرق العسكرية والتشكيلات، ولم نر أو نعرف ما حصل لجيش العراق. سمعنا عن معارك قرب المطار، لكن لم نفز برواية أو مشهد واحد يخلد معركة عسكرية.
مشهد quot;سقوطquot; بغداد لا يحتمل الدلالات العسكرية الدراماتيكية لهذا التعبير. فقد تابعنا مذهولين دبّابة واحدة تجتاز الجسر وتقترب من وزارة الاعلام، ففهمنا أن بغداد سقطت والعمل العسكري الوحيد الذي أمكن رؤيته هو بضعة قذائف قاتلة صوب صحافيين عرب وأجانب.
ومن أجل ترميز سقوط quot;الدكتاتوريةquot; تمّ تصميم مشهد اطاحة تمثال صدّام في ساحة الفردوس، فحصلنا في الحقيقة على أبلغ توثيق لحقيقة أخرى. كان يفترض أن تسجل الكاميرات اطاحة مدويّة للصنم الضخم من عليائه الى الأرض لتصعد الجماهير المتحررة فوقه على غرار المشاهد العتيدة لإطاحة التماثيل في العواصم الشيوعية قبل عقد ونيف من الزمن، لكن التمثال لم يكن سوى صاج أجوف فانطعج ببساطة عندما تمّ الاستعانة بدبابة أميركية، وتمزق خلال سحبه الى الأسفل. ولم يظهر مشهد اطاحة التمثال فاشلا، فحسب، بل إن الجمهور الصغير المتواجد بدا مثل كومبارس تمّ احضاره لتصوير المشهد الذي سيبثّ على كل الشاشات، وسنكتشف لاحقا أن بعض الوجوه التي كانت في الصورة تكررت في مواقع أخرى من بينها مشاهد سابقة لدخول بغداد واتضح أنهم عناصر دخلت مع قوات الاحتلال. وقد فات تدارك مقطع خارج النص بصعود جندي غطّى وجه التمثال بالعلم الأميركي.
هذا المشهد البائس يلخص الحقيقة غير الملحمية لسقوط بغداد أمام الغزو، ولأن كل شيء كان خاطئا وكاذبا فالثمن سيكون فادحا، تحرير العراق كان كذبة، ونحر الغزاة على أسوار بغداد كان كذبة. والحقيقة أن أغبى وأسوأ قيادة لدولة عظمى لم تستطع كبح جماح شهوتها للفوز بطريدة سهلة وكانت الطريدة أعند مما يجب لكي تخرج مبكرا بالاستخلاص الصحيح.
وقد تتالت مشاهد تخالط الكذب وتختلط فيها دراما المقام بكوميديا المقال ابتداءً بمؤتمرات الصحّاف وانتهاء بمؤتمر بوش الذي اعلن فيه quot;انجاز المهمّةquot; من على ظهر سفينة حربية على الشاطئ الأميركي وبخلفية صمّمها أحد أشهر مصممي المشاهد السينمائية في هوليوود.
على قدر هزال وبؤس مشهد السقوط كان حجم الكارثة المنتظرة مرعبا.. فخلف المسرح كان البطل الفعلي وسيد اللعبة (اللوبي الصهيوني مع إسرائيل) يصمم بوعي تام تلك النازلة العظمى التي ستنزل على رأس الشعب العراقي (ازالة الدولة الوطنية وفتح باب الحرب الأهلية)، وكانت الأطراف جاهزة للقيام بحصّتها للوصول الى الكارثة.
كان مشهد الحرائق وهي تلتهم المؤسسات ومتحف الـ7 آلاف عام من التاريخ وهو يُنهب يسدِل الستار على المشهد الهزلي السقيم لتبدأ المسيرة نحو الجحيم.
- آخر تحديث :
التعليقات