خالد الدخيل
ربما أعادت بشاعة حرب إسرائيل الحالية على غزة فكرة المغامرة. عدد الضحايا المدنيين فيها كبير جداً، والأكبر منه عدد الأطفال الذين يتساقطون مثل العصافير برصاص quot;جيش الدفاع الإسرائيليquot;. الموقف الرسمي العربي من quot;حماسquot; هذه الأيام هو الموقف نفسه من quot;حزب اللهquot; أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006. وهو موقف واضح: هذه التنظيمات التي تعطي لنفسها دور المقاومة في وجه إسرائيل مناهضة للسلطة أو الدولة التي تنتمي إليها. ترسم لنفسها سياسات واستراتيجيات من دون التنسيق مع دولها. ولأنها كذلك تنزلق إلى مغامرات وحروب هي ليست مؤهلة لها، ومن دون تقدير لعواقبها المدمرة على شعوبها، وعلى المنطقة. لا يمكن للدول العربية والحالة هذه أن تدعم تنظيمات تغامر بهذا الشكل لمجرد أنها تتبنى خيار المقاومة. إنجرار الدول العربية في هذا الاتجاه، حسب الرؤية الرسمية، يعني أنها تقبل أن تتحول إلى أدوات توجهها هذه التنظيمات كيف وأنى شاءت، خدمة لأهدافها وأهداف الدول التي تتحالف معها. الأمر يجب، وحسب الرؤية الرسمية، أن يكون عكس ذلك. يجب أن تخضع هذه التنظيمات لسلطة الدولة التي تنتمي إليها، وأن تحترم سيادة هذه الدولة على أراضيها، وأن تعترف بحقها الحصري في أنها هي وليس أي طرف آخر يملك قرار السلم والحرب. ولأن ما حصل في لبنان من قبل، ويحصل في فلسطين تحت الاحتلال من بعد، هو اختطاف لقرار السلم والحرب، فإن الدول العربية يجب أن تتضامن مع السلطة الفلسطينية، من ناحية، ومع الدولة اللبنانية، من ناحية أخرى، في رفض تعدي تلك التنظيمات على سلطات هاتين الدولتين وحقوقهما الدستورية، وتعريض الأمن فيهما، إلى جانب مصالح وحياة المواطنين للخطر.
من جانبها ترى قيادة quot;حماسquot;، كما رأت قيادة quot;حزب اللهquot; من قبل، أنها تمثل خيار وإرادة المقاومة العربية في وجه العدوان والاحتلال الإسرائيليين. وهو خيار يفرض نفسه أمام الفشل الذريع لخيار السلم والمفاوضات، وهو خيار امتدت فرصته، ولا تزال على مدى أكثر من عقدين من الزمن، دون نتيجة تذكر. أمام هذا الفشل ترى تنظيمات المقاومة أن دعمها والوقوف معها واجب على كل دولة عربية، وكل مواطن عربي. ومن يفعل عكس ذلك يتنصل من مسؤولياته في الصراع، بل قد ينظر إليه على أنه متواطؤ مع العدو. يمكن أن يجادل أصحاب خيار المقاومة بأنه ليس هناك في الأفق ما يشير إلى أن خيار التفاوض يحمل في طياته حلا للصراع يحفظ للفلسطينيين وللعرب حقوقهم التاريخية والسياسية في فلسطين. وبالتالي ترى هذه التنظيمات أن من حقها، حتى بعد أن تقع الكارثة في أن ترفع صوتها بالشكوى مطالبة بتضامن الدول العربية معها لنصرتها في تضحياتها، وبتدخل هذه الدول، وبذل أقصى جهودها لوقف العدوان. وإذا ما تأخرت الدول العربية عن الاستجابة، أو اعترضت على ما اقترفته تلك التنظيمات، أو لم تتمكن من تحقيق شيء يخفف من حجم الكارثة، يتم وصفها بالتقاعس، بل وبالتواطؤ.
نحن هنا أمام رؤيتين متناقضتين، وهذا بحد ذاته شاهد على ما وصل إليه حال العرب. والدولة لا يمكن أن تتنكر لمسؤوليتها في ذلك. فمع صحة وصواب رؤية الدولة العربية لحقها في قرار السلم والحرب، ورفضها لتجاوز تنظيمات المقاومة على هذا الحق، فإنها مطالبة بأن تواجه مسؤوليتها هي قبل غيرها عن نشوء هذه الإشكالية من أساسها، وأنها هي التي وضعت نفسها نتيجة لذلك في مأزق حقيقي. إطار الإشكالية هو الصراع العربي الإسرائيلي، ومن ثم يتمثل مأزق الدولة العربية مع تنظيمات المقاومة في التناقض الحاد بين التصور النظري للإشكالية أو الصراع مع إسرائيل، والذي بلورته الدولة العربية منذ أكثر من ستين سنة، وبين الواقع السياسي العربي الذي أوجدته الدولة نفسها. صورت الدول العربية القضية الفلسطينية منذ البداية على أنها قضية عربية، وأنها جوهر الصراع العربي الإسرائيلي. وهي كذلك. مما يعني أن إدارة الصراع مع العدو يجب وفق هذا التصور أن تتم في إطار عربي مشترك، ووفقاً لمصالح عربية مشتركة. لكن في الواقع ما حصل، ويحصل الآن هو أن كل دولة عربية تتعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي على أساس من مصالحها الوطنية قبل أي شيء آخر. وهذا طبيعي. حتى فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، ومنذ بداياتها الأولى تصرفت وتتصرف انطلاقاً من مصلحة وطنية فلسطينية. وهذا طبيعي أيضاً. الأسوأ في الحالة الفلسطينية أن كل فصيل أخذ مع الوقت يتصرف داخل الصراع انطلاقاً من مصالحه السياسية التنظيمية الخاصة، بما أدى إلى تداخل المصلحة الوطنية والتباسها مع المصالح الفئوية للفصائل. وقد ترتب على هذا الانقسام الفلسطيني المزمن، والمترافق مع انقسامات عربية مزمنة هي الأخرى، أن دخل كثير من الفصائل دائرة الصراعات العربية بحثاً عن دعم مالي وسياسي لها في صراعاتها داخل الساحة الفلسطينية. وهنا تداخلت والتبست المصالح والتوجهات: الأيديولوجي مع السياسي، الوطني مع القومي، الفئوي مع الوطني، الواقع مع التصور النظري... إلخ.
مع هذا التداخل اختلطت المعايير، مما سمح بهيمنة لغة المزايدات بين كل الأطراف للتغطية على حقيقة ما يحصل. ومع أن هذه التغطية مكشوفة للجميع، حتى وإن لم يعرفوا الأسرار والتفاصيل، فإنها بقيت جزءاً مكشوفاً من اللعبة. كان لابد أن يفضي فشل الدولة العربية المستمر في إدارة الصراع مع إسرائيل إلى وضع حد لما يعرف بالحروب الشاملة معها. كأن الدولة العربية هنا أرادت، أو أرغمت على التخفف من أعباء الصراع. لكن ما يحصل لم يحقق لها ذلك. الحرب الحالية على غزة، وقبلها حرب 2006 مع quot;حزب اللهquot;، وإن اختلفت ظروفها ومسبباتها، تقع ضمن هذا السياق. مع تغير الظروف والتحالفات الإقليمية، نشأت وتبلورت إلى جانب الصراع مع العدو صراعات فلسطينية فلسطينية، وصراعات عربية عربية عبرت عن نفسها في محطات كثيرة، وبأشكال مختلفة. أبرز هذه المحطات على الجانب الفلسطيني ابتدأت في الأردن، ثم لبنان، وصولا إلى السلطة الفلسطينية تحت الاحتلال. وحرب إسرائيل على غزة حالياً تأتي على وحشيتها وبربريتها ضمن إطار الصراع بين quot;فتحquot; وquot;حماسquot;، أو الصراع الفلسطيني الفلسطيني.
من هذه الزاوية، موقف الدول العربية في جانب منه مفهوم، بل ويمكن أن يكون مبرراً. هو مفهوم لأنه ينطلق من فرضية أن quot;حماسquot; ربما جرت الشعب الفلسطيني، وجرت المنطقة إلى مغامرة انتهت بهذه الكارثة الإنسانية في غزة. وهو مفهوم لأن quot;حماسquot; ربما تريد في هذه الحرب تسخير مواقف الدول العربية لتحقيق هدفها في ترسيخ شرعيتها كشريك لمنظمة التحرير في معادلة الصراع مع إسرائيل. وموقف النظام العربي الرسمي مبرر أيضاً لأنه يستند إلى فرضية صحيحة، وهي أن قرار الحرب والسلم هو حق حصري للدولة، ولا يجوز الافتئات على هذا الحق. من حيث المبدأ النظام الرسمي العربي محق في رؤيته هذه. لكن، هذا النظام لم يلتزم بمقتضيات هذا المبدأ. هناك ثلاث مسائل مهمة ذات صلة مباشرة بحق الدولة المشار إليه، وبموقفها من تعديات تنظيمات تقع خارج الدولة على حق الدولة. أولا مسؤولية الدولة في ظهور منظمات مثل quot;حماسquot; وquot;حزب اللهquot; تتعدى على حق الدولة في أمر استراتيجي مثل قرار السلم والحرب. ضعف الدولة العربية أفضى إلى فشل خيار المفاوضات، بما أدى بعد عقود من الزمن إلى نشوء حالة فراغ سياسي جاءت المقاومة لملئه واستغلاله. ثانياً ماهو البديل الذي يمكن للدولة أن توفره، وعلى أساسه ترفض تعديات تلك التنظيمات؟ الدولة ترفض المقاومة، لكنها لا تقدم البديل، معرضة نفسها للانكشاف. ثالثاً المسؤوليات المترتبة على حق الدولة في أن تحتكر الحق في قرار السلم والحرب. فحقيقة أن الدولة هي التي تملك هذا الحق يُرتب عليها مسؤوليات جسيمة. في الصراع مع إسرائيل لم تلتزم الدولة بهذه المسؤوليات، وفي الوقت نفسه تريد الاستفادة من حصانة الحق المرتبط بتلك المسؤوليات. مرة أخرى، تستخدم الدولة هذا الحق ذريعة لرفض خيار المقاومة من دون أن تقدم البديل. والنتيجة أن بروز حركات المقاومة بمغامراتها وتعدياتها تعود مسؤوليته أولا إلى سياسات الدولة التي فشلت في إدارة الصراع بشكل يضمن لها هيبتها، وحصانة حقها في احتكار قرار السلم والحرب، ويمنع نشوء فراغات تتسلل منها قوى داخلية، تستغلها قوى خارجية لمصالحها ضداً على مصالح الدولة العربية.
التعليقات