محمد الباهلي

إذا كانت مسألة توطين الصناعة في العالم العربي تواجه العديد من الإشكاليات التي جعلتها غير قادرة على بناء صناعات وطنية مستقلة ومؤهلة للتنافس مع غيرها من الصناعات العالمية، فإن عملية توطين صناعة المعرفة في البلاد العربية تواجه هي الأخرى نفس الإشكالية. وتشير الأبحاث والدراسات إلى أن العرب يحتلون مؤخرة قوائم مؤشرات إنتاج المعرفة التي تصدرها المنظمات الدولية عن النشر العلمي، والإنتاج الإبداعي، والتأليف، والترجمة، ومعدلات القراءة، وبراءات الاختراع والابتكار.

فرغم الاستثمارات الضخمة التي أنفقت على مشاريع التنمية ونقل التكنولوجيا، فإنها لم تنجح في دفع حركة الإنتاج العلمي والتطوير التكنولوجي، حيث إن معظم العرب، وبعد أكثر من نصف قرن على استقلال غالبية بلدانهم وعلى اكتشاف النفط، لم يسهموا ولو بقدر ضئيل في هذا المجال الحيوي، كما يقول الدكتور نبيل علي في كتابه quot;العقل العربي ومجتمع المعرفةquot;.
لذلك لا غرابة أن تداول بعض الباحثين عبارة quot;التصحر المعرفيquot; والتي تعني تجريف quot;التربة الأكاديميةquot; في كثير من البلدان العربية تحت شعار quot;عولمة التعليم العاليquot;. فقد انتشرت الجامعات الخاصة التي لا يهمها من التعليم إلا تحقيق الربح، وتضافر مع هذا التجريف الحاد تجفيف المنابع المعرفية والعلمية، لاسيما جراء ظاهرة quot;هجرة الأدمغةquot; التي تفشت بشكل حاد في كثير من الدول العربية.

وكل ما يخشاه المرء أن تستمر هذه الحالة على ما هي عليه، لما يترتب عليها من دوام استبعاد العرب كلياً من مساحة صناعة المعرفة والإنتاج العلمي والتكنولوجي. وهناك من يقول إن الوطن العربي لديه الكثير من المعوقات والأسباب التي تحرمه من القدرة على النهوض والدخول في سوق الصناعة العالمي، وبخاصة صناعة المعرفة، كما حصل في بعض الدول الآسيوية مثل الهند وماليزيا والصين، أو كما حصل في بلدان من أميركا اللاتينية كالبرازيل التي أصبح لديها مدارس اقتصادية خاصة وفكر اقتصادي مستقل. ويعيد الباحثون مجمل معوقات وأسباب الحالة العربية إلى مصادر أهمها ضعف التعليم ومخرجاته، والعجز عن تحمل نفقات الاستثمار في العلم، والتقصير في دعم الأبحاث التي تمثل المدخل الأساسي إلى عصر الصناعة، وعدم توفر بيئة صالحة لتنمية التفكير النقدي، والفشل في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي... لذلك فإن نجاح العقل العربي الصناعي يكمن في قدرة العرب على تخطي مثل هذه العقبات ومواجهة هذا العجز بالإرادة التي وحدها التي تمكننا من امتلاك رؤية واضحة في هذا الطريق تعتمد التكنولوجيا المتقدمة كأساس في التربية العربية، وتعمل على تقوية قدرة العرب على التنمية الذاتية.

لذلك فإنه يجب عدم اختصار موضوع صناعة المعرفة في الشق الاقتصادي وحده، لاسيما اقتصاد الفقاعات الذي يرتبط بمضاربات الأسهم وما شابهها، والتي كثيراً ما تتخذ الوهم طريقاً للتنمية بدلا من التركيز على اقتصاد المعرفة، متمثلا في تطوير البحث العلمي ودعمه وتخصيص ميزانيات ضخمة لصالحه، والاهتمام بالتنمية العلمية والتكنولوجية وجعلها ثقافة عامة شاملة في المجتمع، وإخراج الاقتصاد من تدخل الهوى السياسي وحالة التبعية، والتصدي للمحاولات التي تستهدف إخراج العقل الاقتصادي العربي من اعتباراته الاجتماعية والأخلاقية والفكرية والتاريخية أو التشكيك في قدرته على أن يكون له فكره الاقتصادي المستقل.

لابد أن نعيد للشخصية العربية المسلمة مكانها القيادي الذي فقدته، حيث إن مكان هذه الشخصية هو القيادة وليس الانقياد والتبعية.

إن مستقبلنا كأمة ومستقبل أجيالنا القادمة يعتمد على استعدادنا لقبول هذا التحدي كفرصة لاستعادة المكانة ونيل الاحترام الذي نستحقه ويجب أن نحافظ عليه، لاسيما من خلال الإسهام في بناء وتنمية المعرفة.