احمد المرشد

ربما يتبقى أيام وشهور على موعد استفتاء تحقيق المصير فى السودان والذي يحين موعده في التاسع من يناير 2011، ولكن من جهة أخرى هي مجرد ثوانٍ يتوقف عليها مصير أمة ومستقبل بلد ظل اسمه laquo;السودانraquo; او هكذا عرفناه منذ نعومة أظفارنا. وربما أخذتنا القضايا العربية الكثيرة والمتشعبة من التفكير الجاد والمتوازن في مستقبل السودان كـأمة وشعب وبلد، لطالما قلنا عنه انه احتياطي او مخزون الغذاء العربي في أوقات الشدة.
ومن الواضح ان الأوقات العصيبة باتت قريبة جدا، ليضاف الى مشاكلنا العربية المستعصية قضية دولتي السودان، جنوبه وشماله، واذا أنحينا التفاؤل جانبا، سيكون شرقه وغربه، بدارفوره وآبييه.. لتزداد أعباء الجامعة العربية وعدد دولها، انه مجرد تخمين او حالة من الخيال، ولكنه الخيال الذي يدنو كثيرا من عالم نعيشه، انه عالم الواقع او الحقيقة.
لماذا نقول: laquo;انه عالم الواقع او الحقيقةraquo;.. لان ما نرصده هو اقتراب لحظة الانفصال مع استبعاد خيار استمرار الوحدة، والمشكلة ان هذه اللحظة تقترب في حين لم يظهر السودانيون اهتماما بميلاد هذه اللحظة الفاصلة في حياتهم والتي ستفصل بلدهم الى شطرين الآن ثم أربعة أجزاء فيما بعد حسب السيناريوهات الأمريكية المعدة لهذا البلد الخصيب أرضًا ونعمًا مدفونة، ولكنه ليس خصيبًا عقلاً وفكرًا. فالانفصاليون ينشطون ودعاة الوحدة يبتعدون عن المشهد مكتفين بالدعوات تارة والعويل تارة أخرى للتنبيه من مخاطر شطر الدولة. فالجنوبيون يشددون على ضرورة إجراء الاستفتاء في موعده المقرر ويطالبون الشمال بعدم المساس بعملية الاستفتاء مع ضمان احترام نتائجه.
وواضح ان الجنوبيين يرتاحون للنتيجة المرتقبة وكأنهم يعرفونها، وكأنهم يعلمون انها تتواءم مع رغبتهم وآمالهم فى الانفصال. فعلى حد قولهم: laquo;ليس في الأفق القريب او الماضي السحيق ما يشجعنا على الوحدة، فمقدمات الانفصال هي الأكثر على دلائل الوحدةraquo;.
النظرة التشاؤمية للجنوبيين حيال الوحدة، لا يقابلها نظرة تفاؤلية من قبل الشماليين باستمرار السودان موحداً.. فالصورة سلبية لديهم ايضا، وإن كان سبيلهم في ذلك هو التهديد من تداعيات تفضيل الجنوبيين لخيار الانفصال. ولنا في تصريحات كمال عبيد وزير الإعلام السوداني والقيادي البارز في حزب laquo;المؤتمر الوطنيraquo; الحاكم، أسوة فيما ذكرنا، فهو الذي قال مهددا الجنوبيين: laquo;إن المواطنين الجنوبيين لن يكون لهم حق الإقامة في الشمال، اذا ما اختاروا الانفصال في الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودانraquo;. وحسب هذا القول، فان المواطنين الجنوبيين في الشمال لن يتمتعوا بحقوق المواطنة، الوظائف، الامتيازات في البيع والشراء بالأسواق، ولن يعالجوا في المستشفيات بالشمال اذا ما اختاروا الجنوب ليكون بلدا مستقلا. وقد نسي القيادي والسياسي افتراضا بحكم منصبه الحزبي والحكومي، ان تحميل المواطنين الجنوبيين الذين يعيشون في الشمال نتيجة اختيارات كل الجنوبيين في الجنوب والشمال والشرق والغرب، لهو أمر ظالم، فهو يضع بذلك من قال laquo;لاraquo; للانفصال في نفس زاوية من أيد ودعم الانفصال.
المسؤول السوداني الحزبي والحكومي، لم يتوقف عن لغته العنصرية الاستعلائية، واتهم قيادات الجنوب بخداع شعبهم الجنوبي وانه لا يوجد فيهم من يتحدث عن الوحدة بشكل قوي.
الحقيقة .. أن كل او معظم القيادات الجنوبية تصرح ليل نهار بان laquo;الوحدة في الوقت الراهن أصبحت غير جاذبة وان الواقع لا يشجع المواطن الجنوبي على اختيار الوحدةraquo;. فالزعيم الجنوبي سلفا كير ميارديت نائب الرئيس السوداني يقف في نفس الاتجاه، ويرى ان خيار الانفصال أمام الجنوبيين هو امر لابد منه. ويتجاوز سلفا كير ميارديت مسألة التركيز على تفضيل خيار الانفصال الى اتهام حكومة الرئيس عمر البشير بانها فشلت في ان تجعل وحدة السودان خيارا جاذبا للجنوبيين بعد خمس سنوات مضت من توقيع اتفاقية السلام عام 2005.
وبعيدا عما قاله الزعيم الجنوبي، فان علي عثمان طه النائب الثاني للرئيس السوداني، اقر بموافقة حكومته على نتيجة الاستفتاء ايا كان موقفها، سواء كرست تقسيم السودان او اختار استمرار وحدته. ولم يتردد طه الذي كان يتحدث أمام مؤتمر يتعلق بالسودان في الأمم المتحدة على هامش أعمال اجتماعات الجمعية العامة، في التركيز على ان خيار حكومته هو الوحدة، هذا رغم اعترافه laquo;بحق شعب الجنوب في خيار آخرraquo;. واعتقد انه كان على القيادي السوداني الأبرز والسياسي الأكثر مصداقية في الشمال، مطالبة ما دونه من القيادات الشمالية بالسكوت والامتناع عن الإدلاء بالتصريحات المغرضة، مثلما فعل كمال عبيد وزير الإعلام. فما قاله هذا الوزير يمكن تأطيره ضمن تحفيزه لخيار الانفصال وليس الوحدة، فهو يستخدم لغة الوعيد والتهديد لكل ما هو جنوبي يعيش في الشمال باحتمال طرده من الجنة التي يحياها وإعادته الى أدغال الجنوب.
الصورة جد قاتمة في السودان، رغم محاولات الشمال إبداء بعض التصرفات التي قد تستحي منها العين الجنوبية، مثل اعتزام الحكومة السودانية إجراء إصلاحات وتعديلات قانونية في العاصمة الخرطوم لمراعاة حقوق laquo;غير المسلمينraquo;، للتشجيع على تحقيق خيار الوحدة .. فثمة مواد على وشك التعديل من القوانين التي تحمل الصفة الدينية، مثل استثناء غير المسلمين من قانون الزي الفاضح الذي يتعرض مخالفوه لعقوبة الجلد 40 جلدة او الغرامة والسجن. ويتوافق هذا مع رغبة الجنوبيين الذين يطالبون بإلغاء القوانين الإسلامية واستبدالها بقوانين علمانية في البلاد لضمان تحقيق الوحدة. ومن ضمن القوانين ذات الصبغة الدينية، المادة المتعلقة بالحفلات، حيث من المقرر تمديد حفلات الزواج الى منتصف الليل، وكذلك السماح لغير المسلمين بإقامة حفلات غنائية ومسرحية أثناء صلاة الجمعة اذا كان الاحتفال لا يسبب تشويشا على الصلاة .. وكذلك استثناء غير المسلمين في فتح محالهم أثناء الصلاة وفتح محال المأكولات والمشروبات أثناء نهار شهر رمضان.
ومع هذه الرؤية السوداوية .. نرى بصيص أمل من الزعيم محمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي المعارض، اذ يطالب بضرورة تكثيف التوعية وسط مواطني الجنوب ومناطق الجنوبيين في الشمال وأوروبا، للتنوير بعملية الاستفتاء على تقرير المصري. فهو يعول على أهمية التعبئة العامة في مناطق الجنوب ويدعو الى وفاق وطني سوداني شامل والاتفاق على الثوابت الوطنية القومية وفي مقدمتها الحفاظ على وحدة بلاده من اجل مواجهة المخاطر والتهديدات التي يتعرض لها.. وحتى يكون الاستفتاء تدشينا وتأمينا لوحدة الشمال والجنوب وليس انقساما او انفصالا لوطن واحد.
ولعلي اعتقد وقد يتفق معي البعض، بان مشكلة السودان هي مشكلة دينية، فاذا كان الحكم في الشمال هو حكم يستند الى الشريعة الإسلامية او هكذا يقولون، فان نص التشريع في الجنوب يستند في جزء كبير منه الى الدين المسيحي والعرف، ولكن تأثير الدين المسيحي اقوى بفعل الدور السياسي للكنائس في الجنوب. واعتقد أيضا انه من أخطاء اتفاق السلام 2005، انه استند الى تقسيم البلاد على أساس ديني، وكان من الأفضل استثناء الدين من الحكم والتقسيم، بحيث يتم استثناء غير المسلمين من تنفيذ الأحكام الإسلامية في الشمال وقصر هذا على المسلمين فقط.
إجمالاً.. بوادر الانفصال تتغلب على محفزات الوحدة، رغم مخاطر الخيار الأول على مستقبل السودانيين كمواطنين وشعب وليس كبلد يتعرض لهزة سياسية واقتصادية صعبة بسبب قصر نظر القائمين عليه.. وقد نعود مرة أخرى الى كمال عبيد وزير الإعلام السوداني مهددا الجنوبيين الذين يقيمون في الشمال: laquo;لن نعطيهم حقنة في المستشفىraquo;. وهذا ابلغ دليل على العقلية المريضة التي تتحكم في السودان الشقيق.