محمد الصياد


حين‮ ‬يستمع المرء إلى تصريحات وأحاديث رؤساء الأحزاب والكتل السياسية والشخصيات والرموز الدينية والمدنية النافذة في‮ ‬الحياة السياسية العراقية حول أزمة تشكيل الحكومة العراقية،‮ ‬وتبريرات فشلهم في‮ ‬تشكيلها لحد الساعة،‮ ‬حتى بعد مرور قرابة سبعة أشهر على إجراء الانتخابات،‮ ‬فإنه‮ ‬يشعر بالتقزز والاشمئزاز من لامبالاة واستهتار هؤلاء الساسة ببلادهم وبمعاناة أبناء شعبهم‮.‬
فلقد ثبت بالدليل القاطع أن جميعهم‮ -‬بلا استثناء تقريباً‮- ‬متعطشون للسلطة حتى النخاع،‮ ‬يلفون ويدورون ويناورون ويماطلون ويراوغون ويزايدون،‮ ‬وكل منهم‮ ‬يدعي‮ ‬البراءة والنبل والشهامة والانطلاق من مصلحة الشعب العراقي‮ ‬والحرص على صيانتها‮... ‬وو الخ‮.‬
ولم‮ ‬يثبت حتى الساعة أن من بينهم من هو مستعد فعلاً‮ -‬لا زعماً‮- ‬للتضحية بالكرسي‮ ‬واستصغار مرتبته والامتيازات التي‮ ‬تأتي‮ ‬من ورائه،‮ ‬من أجل أن‮ ‬يساهم بموقفه هذا في‮ ‬وضع حد لصراع الديكة الممض والممل المندلع بينهم منذ‮ ‬7‮ ‬مارس الماضي‮.. ‬الموعد الذي‮ ‬أجريت فيه الانتخابات البرلمانية العراقية‮!!‬
تحالفات وائتلافات عجيبة تتشكل،‮ ‬وأخرى‮ ‬ينفرط عقدها ويعاد تدويرها من دون أن‮ ‬ينتج عن ذلك طحناً‮ ‬يفضي‮ ‬إلى حلحلة الأزمة‮.‬
هذا‮ ‬يضع فيتو على ذاك فيبادله الأخير‮ ''‬بذات الشعور‮''‬،‮ ‬لتستمر حفلة الزار السياسي‮ ‬العراقي‮.. ‬بالتوازي‮ ‬والترافق مع استمرار جنون المجموعات الفاشية في‮ ‬إزهاق أرواح العراقيين بطرق في‮ ‬غاية الخسة والوحشية لا تضاهيها سوى وحشية عالم الغاب في‮ ‬عصور الوحشية الأولى‮. ‬
وحتى هذه الجماعات الدموية المتوحشة هي‮ ‬الأخرى لا تتورع عن حسبان نفسها جزءاً‮ ''‬أصيلاً‮'' ‬مما درج ساسة العراق الجدد على تسميته بالمكونات العراقية،‮ ‬توصيفاً‮ ‬لأحزابهم وتكتلاتهم المليشياوية التي‮ ‬أنشأوها في‮ ‬غمرة الفوضى الهدامة التي‮ ‬أشاعها المحتل الأمريكي‮ ‬يوم‮ ‬غزا العراق في‮ ‬أبريل من عام‮ ‬‭.‬2003
فالمحتل هو الذي‮ ‬دمر نظام الصرف الصحي‮ ‬ومحطات توليد الطاقة الكهربائية والجسور ونحوها من مرافق البنية الأساسية،‮ ‬وهو الذي‮ ‬أشاع الفوضى العارمة في‮ ‬وزارات ومؤسسات الدولة العراقية ومتاحفها،‮ ‬وهو الذي‮ ‬حل الجيش العراقي‮ ‬والمؤسسات الأمنية‮.. ‬وأخيراً‮ ‬وليس آخراً‮ ‬فإن المحتل هو من أطلق شرارة التشطير والتقسيم الطائفي‮ ‬والعرقي،‮ ‬وهو الذي‮ ‬أنتج ظاهرة‮ ''‬ملوك الطوائف‮'' ‬الذين نراهم اليوم‮ ‬يتناطحون ويتصارعون على الطريقة الرومانية،‮ ‬متسلحين بمذاهبهم وطوائفهم ومرجعياتهم وامتداداتهم الإقليمية والدولية،‮ ‬من دون أن‮ ‬يرف لهم جفن خجلاً‮ ‬واستحياءً‮ ‬من المستوى الهبيط والمخجل لتهالكهم على كراسي‮ ‬الحكم،‮ ‬ومن دون أن‮ ‬يكون للوقت لديهم أي‮ ‬معنى،‮ ‬فحتى لو دار الحول وهم لازالوا في‮ ‬حيص بيص تشكيل الحكومة فلا ضير لديهم في‮ ‬ذلك ماداموا مستمرين في‮ ‬تلقي‮ ‬رواتبهم وامتيازاتهم،‮ ‬فما من شيء بالنسبة لهم‮ ‬يستدعي‮ ''‬التعجيل‮'' ‬بتشكيل الحكومة‮.. ‬بما في‮ ‬ذلك اتساع دائرة الحريق الذي‮ ‬يهدد وحدة البلاد ويزيد من عذابات العراقيين‮. ‬ومن فرط تهافتهم وتكالبهم على المناصب الوزارية والحكومية بما فيها،‮ ‬على نحو خاص،‮ ‬منصب رئاسة الوزارة،‮ ‬فإن صراعاتهم على هذه المناصب امتدت‮ -‬وهذا أمر طبيعي‮ ‬ومتوقع‮- ‬إلى داخل‮ ‬غيتواتهم الحزبية المذهبية والطائفية المتخلفة،‮ ‬ما زاد الطين بلة،‮ ‬وجعل تشكيل الحكومة العراقية العتيدة أمراً‮ ‬بالغ‮ ‬التعقيد،‮ ‬واستدعى تدخلات إقليمية ودولية سافرة في‮ ‬هذا الشأن،‮ ‬والمضحك في‮ ‬الأمر أن هؤلاء الساسة،‮ ‬بعد كل هذا،‮ ‬ينبرون،‮ ‬الواحد تلو الآخر،‮ ‬للحديث عن التدخلات الأجنبية في‮ ‬الشأن العراقي،‮ ‬وهم الذين جعلوا السيادة العراقية‮ ''‬ملطشة‮'' ‬للقاصي‮ ‬والداني‮.‬
وفي‮ ‬الأثناء،‮ ‬يحرص الواحد منهم‮ (‬من هؤلاء الساسة الذين سيحكمون العراق‮!) ‬على الإطلالة بين الفينة والفينة بتصريح‮ ‬يُحَمِّله بشارة للعراقيين المعطوبين بقرب تكلل المشاورات الدائرة بين الكيانات والكتل العراقية الفائزة بأغلبية مقاعد البرلمان،‮ ‬بتشكيل الحكومة العراقية الموعودة،‮ ‬فيتبعه تصريح لسياسي‮ ‬آخر منافس‮ ‬يعد بقرب تشكيل الحكومة ليؤكد أنه هو وليس منافسه من سيتولى مهمة تشكيلها‮. ‬وهي‮ ‬كلها تصريحات ووعود تندرج في‮ ‬إطار التجاذبات والتناطحات الحزبية المضجرة بزيفها المستهتر بطول معاناة العراقيين الذين تم تحطيم وإعطاب جزء كبير من شخصيتهم المعنوية،‮ ‬بعد أن كانت الشخصية العراقية مضرباً‮ ‬في‮ ‬القوة والتماسك والإباء‮. ‬هل هذا جعل العراقيين‮ ‬يحنون إلى عهد صدام حسين المستبد؟ نعم للأسف الشديد‮! ‬فذاك النظام الذي‮ ‬ورَّط العراق والعراقيين في‮ ‬حروب مدمرة أعادت العراق إلى العصر الحجري‮ (‬مجازاً‮)‬،‮ ‬وهو تعبير استخدمه بالمناسبة جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي‮ ‬في‮ ‬عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الأب في‮ ‬اللقاء الشهير الذي‮ ‬جمعه مع وزير خارجية العراق آنذاك طارق عزيز في‮ ‬جنيف عشية حرب الخليج الثانية‮ (‬16‮ ‬يناير‮ ‬1991‮) ‬لتهديد القيادة العراقية بعواقب‮ ‬غزوها لدولة الكويت‮ ‬‭-‬‮ ‬نقول ذاك النظام البائد أصبح محل حسرة لدى كثير من العراقيين وقد شعروا بالخذلان والخديعة جراء الأداء المدمر لساستهم الجدد،‮ ‬تحركهم في‮ ‬ذلك‮ ‬غريزة‮ ''‬رب‮ ‬يوم بكيت فيه فلما صرت في‮ ‬غيره بكيت عليه‮''. ‬فلا‮ ‬غرو،‮ ‬والحال هذه،‮ ‬أن‮ ‬يرحب العراقيون بأي‮ ‬انقلاب عسكري‮ ‬ربما وجدوا فيه خلاصاً‮ ‬لهم من هذه الورطة التاريخية الجديدة التي‮ ‬وجدوا أنفسهم فيها فجأة،‮ ‬إنما ليس من دون مساهمة منهم في‮ ‬تخليقها،‮ ‬وذلك بتماهيهم وفزعتهم لأمراء الطوائف الجاثمين اليوم فوق صدورهم‮.‬