عبد الرحمن الراشد
كانت الشكوى سابقا من محطات تلفزيونية فضائية، مثل الموسيقية، بدعوى أنها تفرغ عقول الشباب بما هو تافه، تبدد وقتهم وتلهيهم. الشكوى اليوم من المحطات التي تملأ عقول الشباب بما هو سام وقاتل، تدفع بهم نحو الجهاد والانتحار. اليوم لم تعد الموسيقية ولا الرياضية هي النجم الساطع، بل المحطات التلفزيونية الدينية التي انتشرت مثل الفطر في سماء المنطقة العربية.
ما الذي حدث وفتح السماء لبعض رجال الدين، فلم تعد تكفيهم المنابر ولا الندوات الدينية، وصاروا يبحثون عن آلاف أو ملايين المشاهدين الجالسين في بيوتهم؟ أمران استجدا في الساحة، الأول: تنافس الأقمار الصناعية على تأجير تردداتها بأرخص الأثمان لتمويل المزيد من أقمارها الصناعية الجديدة، والثاني: إصدار فتاوى تجيز تحويل الزكاة والصدقات، التي يفترض أن تنفق على الفقراء والمساكين المحتاجين من الأرامل واليتامى، بحيث صار يجوز أن تنفق على المشاريع الإعلامية الإسلامية.
طبعا، هذا استغلال للدين لجمع الأموال لأغراض سياسية وشخصية؛ لأن كلمة laquo;الإعلام الإسلاميraquo; لها معنى سياسي بحت، تذهب للجماعات السياسية المحظورة والمسموحة. وقد فتحت هذه الفتاوى كنوز الأرض لرجال الدين المتلهفين على الظهور في الإعلام، وبناء مؤسساتهم الدعائية الخاصة، وترويج أفكارهم من دون استئذان من أهل المال الذي أخرجوه للزكاة، أي أننا عمليا بين حالتين متكاملتين: مؤجرو الفضائيات الذين لا يأبهون بالمستأجر إن كان يروج للشعوذة الطبية القاتلة، أو يبيع الوصفات الدينية الطائفية التي ستسبب حروبا كبيرة في منطقتنا. لا يهمهم سوى الحصول على نصف مليون دولار مقابل كل قناة يتم تأجيرها في العام. وعلى الجانب الآخر هناك جماعات تجمع الأموال من التبرعات والزكاة وتنفقها على استئجار الترددات الفضائية وبناء الاستوديوهات وصرف أموال اليتامى والفقراء على شراء الماكياج ودفع المرتبات للضيوف والمذيعين، من أجل إثارة المزيد من الفتن الطائفية أو النداءات الجهادية، ثم جمع المزيد والمزيد من المال عبر أرقام هواتف التبرعات باسم المحتاجين من المسلمين!
الحقيقة أنهم لا يكتفون بخطف الصغار وإرسالهم للحروب وركوب السيارات الانتحارية، بل انتقلوا إلى مرحلة جديدة؛ مصادرة أكبر كم ممكن من الأموال حتى لو كانت صدقات أو زكاة، وهناك القليل الذي فعلته الحكومات لمنعهم. القليل جدا من بينه قرار مصر بوقف بث محطتين سلفيتين تفرغتا للتحريض ضد الشيعة، لكن بقيت عشرات المحطات التي تبث من قبل شيعة وسنة متطرفين يحرضون ضد بعضهم بعضا، ومحطات لا يهنأ لها بال إلا بعد أن تزيد جمهورها حزنا وكآبة.
محطات التحريض الديني أخطر من أن تترك تستغل الفضاء وأموال البسطاء، لكن كيف يمكن السيطرة عليها في ظروف معقدة؟ نحن نخاف ولا نتجرأ، كإعلاميين، على المطالبة بإيقافها؛ لأننا نعرف أن هناك من المتربصين من يريد استغلال المنع حتى يطالب بإيقاف ما تبقى من محطات لا تناسب ذوقه السياسي أو الرياضي أو لمجرد موقف شخصي.
وفي الوقت نفسه، كيف يمكن ترك الجماعات المتطرفة تستغل الفوضى الفضائية وتروج للكراهية والقتل والفتن الطائفية، سواء ضد السنة أو الشيعة أو المسيحيين؟
إنها مسؤولية تعود بالدرجة الأولى إلى ملاك الأقمار الصناعية لا إلى ملاك الفضائيات أو موظفي الحكومات في وزارات الإعلام.
التعليقات