ياسر عبد العزيز


لا يكاد يوم يمر إلا والفضاء العربي يشهد مخالفة صارخة تأتي عبر إحدى 'القنوات الدينية'؛ فمرة ترد فتوى صادمة منتزعة من سياق مهجور عبر إحدى الفضائيات لتعيدنا قروناً إلى الوراء، ومرة ثانية تؤجج تصريحات يدلي بها 'عالم دين' نار فتنة طائفية مهلكة، ومرة ثالثة يُغرق أحد البرامج مشاهديه في عوالم الدجل والشعوذة، ومرة رابعة يستغل برنامج رغبة جماهيره العارمة في التقرب إلى الله عبر الحج أو العمرة، فيجني منهم الأرباح عبر اتصالاتهم ورسائلهم الهاتفية من دون أن يمنحهم فرصة حقيقية في المنافسة على الجائزة المأمولة.

ليست تلك بالطبع جميع المخالفات التي يمكن أن تصدر عن القنوات الدينية الناطقة بالعربية أو عن البرامج التي تقدم محتوى دينياً على الفضائيات العامة؛ إذ يهيمن الفقر الإنتاجي على معظم تلك الفضائيات والبرامج، وينحسر الخيال الإبداعي للقائمين عليها، فلا يدركون أن ثمة أكثر من عشرين نمطاً لتقديم عمل تلفزيوني ذي إسناد ديني مبدع، ويحصرون تلك الأنماط كافة في نمط واحد تقريباً، لا يخرج عن 'واعظ أو عالم أو داعية' يتحدث إلى الجمهور من جانب واحد، أو محاور 'مستسلم' تماماً يجري حواراً مع أحد العلماء.

زادت حدة الانتقادات الموجهة إلى الفضائيات الدينية زيادة كبيرة في الفترة الأخيرة، خصوصاً عندما ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنها قادرة فعلاً على تأجيج الفتن الطائفية والمذهبية وتعميق الأحقاد بين أتباع الديانات والمذاهب المختلفة.

لا ينطوي العالم العربي على حالة فريدة أو مستعصية في ما يتعلق بتنوعه الديني والمذهبي، بل على العكس تماماً؛ فثمة درجة مقبولة من التجانس الديني والطائفي والإثني يتمتع بها، بما يضعه بين المجتمعات الأقل قابلية للتفتت نظرياً، إذا ما تمت مقارنته بغيره من المجتمعات الأكثر محدودية جغرافياً والمكتظة بخليط متنافر من أديان وطوائف متعددة يجمعها التناقض والإقصاء.

لكن الانسداد السياسي النسبي الذي يعانيه العالم العربي، وتسلط الحكومات، وتردي الاقتصاد، والتراجع العلمي والثقافي المزري، وبعض مروجي الفتن من أصحاب المصلحة في إنهاك المجتمع العربي وصرفه عن قضاياه الرئيسة، كلها عوامل زادت قابلية الجمهور للانقياد إلى بعض الممارسات الخاطئة التي ترد عبر الإعلام الديني الفضائي.

لقد دفعت الانتقادات المتزايدة لأداء بعض القنوات ذات الإسناد الديني- خصوصاً بعد ظهور آثار واضحة لتجاوزاتها، كما حدث في الكويت ومصر أخيراً- إلى ظهور بعض الدعاوى بإغلاق أو تقييد أو الحد أو الرقابة المباشرة على أداء هذا النوع من القنوات.

والواقع أن أحداً لا يمكنه أن يطالب أو يتسامح مع مثل تلك الدعاوى؛ فالشعوب العربية شعوب متدينة بالأساس، وهي تجل الدين وتقدسه وتضعه في أفضل المراتب، وتستمد منه معظم الإشراقات التي تتحلى بها في نسقها القيمي وبنائها الأخلاقي.

لا يجوز أن يطالب أحد بمنع أو تقييد أو الحد من المحتوى الديني المقدم عبر الفضاء، خصوصاً أن هذا المحتوى ليس بالكثافة التي يعتقدها البعض. هناك أكثر من مئة قناة فضائية ناطقة بالعربية دينية أو يهيمن المحتوى الديني على معظم أجندة البث بها، لكن مع هذا فإن القنوات الدينية تأتي في المرتبة الرابعة بين أنماط المحتوى الأخرى.

فاللجنة العليا التنسيقية بين الفضائيات العربية تفيد في تقريرها السنوي الأخير أن قنوات الموسيقى والأغاني تهيمن على الفضاء العربي بنسبة 23%، تليها قنوات الدراما، سواء كانت مسلسلات أو سينما، بنسبة 14%، ثم الرياضة بنسبة 11%، فالدين بنسبة 8%، قبل أن تأتي القنوات ذات المحتوى الإخباري بنسبة 7%.

لا تحتل القنوات الدينية رأس أجندة أولويات الجمهور العربي، ولا تمثل الوجهة الأولى لصانعي الفضائيات، ولا تظهر بكثافة لافتة بين أنماط المحتوى الأخرى، لذلك فليس هناك أي مبرر للحديث عن تقييد من أي نوع لإطلاق مثل تلك الفضائيات، خصوصا أن مجتمعات غربية أخرى تعرف درجة كبيرة من النزوع المادي تشهد نسب مشاهدة وبث لمحتوى ديني مقاربة لما يحدث في العالم العربي.

لكن الإشكال الأكبر في ما يتعلق بمنظومة القنوات الدينية الناطقة بالعربية يتعلق بنوع الإسناد الديني الذي يقف وراءها، فثمة قنوات سلفية تهتم بالترويج لقيم السلف وإعلاء شأنها، لكن قنوات سلفية أخرى تجعل الهجوم على الشيعة هدفها الرئيس.

وهناك قنوات شيعية تركز على تقديم الفتاوى أو استعراض سير المراجع، لكن قنوات شيعية أخرى تنال من كرامة الرموز السنّية وتجعل من السلفيين هدفاً لهجماتها المتلاحقة. الأمر يتكرر أيضاً من خلال بعض القنوات المسيحية، خصوصا تلك التي تبث من خارج المنطقة، والتي تهين المسلمين وتشكك في عقيدتهم، وترد على قنوات إسلامية تجعل أهدافها الحط من عقيدة المسيحيين و'تفنيد' كتابهم المقدس.

يقدم هذا النوع من المحتوى أفضل الذرائع لدعاوى منع القنوات الدينية أو حظر ترخيصها، خصوصاً أن تلك القنوات أفرزت نجوماً باتوا رموزاً للفتنة ووقوداً مؤججاً لها، والواقع أن المنع والحظر لن يفيد في وقف التجاوزات، ليس لأن المجتمع سيقف ضده لتنافضه مع الحريات، ولكن لأنه لم يعد ممكناً.

في ظل ثورة الاتصالات الأخيرة، ستتكفل 'الإنترنت' والهواتف الذكية وطرق البث المبتكرة عبر الأقمار الاصطناعية الأوروبية، التي يمكنها أن تدور في ذات المدارات التي تستخدمها أقمارنا، بتقديم أفضل الفرص لـ'الدعاة' الممنوعين لكي يصبحوا نجوماً ويتضاعف عدد أتباعهم ومناصريهم مرات ومرات.

وبعد استبعاد المنع، سنعرف أن القانون أيضاً لن يكون قادراً على ملاحقة جميع مواطن الفتن والخلل في أنماط المحتوى الديني المقدم فضائياً؛ فثمة أنماط لا تعاقب عليها القوانين في بعض بلادنا، وهناك 'دعاة' وصناع برامج يبثون من خارج المنطقة، كبعض القنوات الشيعية والمسيحية التي تبث من أوروبا أو الولايات المتحدة.

لم يبق لصداع القنوات الدينية علاج حاسم؛ ولذلك يجب العودة إلى العمل المنهجي المؤسسي المنظم؛ الذي يبدأ بإنتاج محتوى ديني أكثر منافسة وجودة وحداثة واتساقا مع المقاصد النبيلة للأديان من خلال مؤسسات التلفزة العامة، ويمر بعلاج التشوهات والاختلالات الاجتماعية والثقافية الناجمة عن قصور في أدوار مؤسسات التعليم والثقافة وأنماط التنشئة، ويصل إلى تطوير 'التنظيم الذاتي' للبث الإعلامي الناطق بالعربية، والذي يعلن معايير واضحة وملزمة يجب الالتزام بها عند صناعة البرامج، على أن تسري على المحتوى الترفيهي والرياضي والإخباري أيضاً وليس المحتوى الديني فقط، وعلى أن تحظى بفرص إدانة المخطئين علنا، وحملهم على الاعتذار، أو تغريمهم، وتوقيفهم مؤقتاً عن البث.

يجب ألا نسعى إلى الحد من المحتوى الديني الذي يقدم عبر فضائياتنا، ولا إلى منع أو تقليل عدد القنوات الدينية، ولكن علينا أن نسعى إلى تقديم محتوى ديني أقل انغلاقاً وتعصباً وأكثر حداثة ومنافسة واتساقاً مع المقاصد النبيلة للأديان.