محمد الصياد

هل لاحظتم الفارق بين الحماس المنقطع النظير والهمة والفعل المثابر البادي والظاهر على حركة الآلة الدبلوماسية والترسانة السياسية للنظام السياسي الأمريكي في ما يتصل بتقرير مصير جنوب السودان، وبين سلبية ولا مبالاة واشنطن تجاه سير مفاوضات التسوية الجارية بين ldquo;إسرائيلrdquo; والسلطة الفلسطينية؟

الرئيس الأمريكي باراك أوباما استغل انعقاد الاجتماع السنوي الاعتيادي للجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، وهو اجتماع يحرص عديد رؤساء الدول على حضوره وإلقاء كلمات بلادهم أمام الحشد الكبير من وفود الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، في تظاهرة سياسية عالمية لا تتكرر سوى مرة واحدة في العام، فقد كان (الرئيس أوباما) وراء قيام بان كي مون بالدعوة لعقد اجتماع خاص على هامش الدورة الحالية نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة، على تلبية الدعوة لحضور هذا الاجتماع والاستماع فيه للرئيس الأمريكي وهو يدعو بعبارات مشددة إلى ضرورة إجراء الاستفتاء حول مصير جنوب السودان في موعده محذراً من أن مصير الملايين في ذلك البلد، على المحك .

وبالفعل توجه وفد مجلس الأمن إلى السودان يوم الأربعاء 6 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري في زيارة تستغرق أربعة أيام زار خلالها مدينة جوبا عاصمة جنوب السودان ومدينة الناشر وإقليم دارفور غربي السودان والعاصمة الخرطوم وذلك ldquo;للوقوف على الترتيبات الخاصة بإجراء استفتاء تقرير مصير جنوب السودانrdquo; .

الحملة الأمريكية المسعورة الهادفة على نحو واضح وصريح إلى إنجاز فصل جنوب السودان أين هي من جهود العلاقات العامة التي تسم التحركات السياسية والدبلوماسية الأمريكية والهادفة، وفقاً للزعيم الأمريكي، لإنجاز التسوية السياسية بين ldquo;إسرائيلrdquo; والفلسطينيين وإقامة الدولة المستقلة؟

فبعد أن دفعت واشنطن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس دفعاً للدخول في مفاوضات مباشرة مع الحكومة ldquo;الإسرائيليةrdquo; من دون قيد أو شرط بما في ذلك رفض الطلب الفلسطيني الخاص بتجميد الاستيطان خلال المفاوضات، فقد تركته من جديد نهباً لمهزلة المفاوضات مع حكومة فاشية تنام وتصحو على القتل بدم بارد والإمعان في سياسات الحصار والترانسفير لسكان القدس والخليل، وحتى عرب 48 .

على أية حال، وعود الرئيس أوباما للفلسطينيين ليست جديدة، فالمفاوضات الفلسطينية ldquo;الإسرائيليةrdquo; عمرها اليوم 19 عاماً ولم تسفر عن أية نتيجة سوى المزيد من التدهور في الموقف التفاوضي للسلطة الفلسطينية ومزيد من مصادرة الأوضاع المعيشية اليومية لسكان الضفة والقطاع .

الآن السلطة الفلسطينية ورئيسها في ورطة، فلا هما في وضع (حد أدنى على الأقل) يسمح لهما بالاستمرار في المفاوضات بتسويغات قابلة للتسويق، ولا هما يملكان خياراً آخر، بموازاة المفاوضات، يليق بحركة تحرر وطني، وذلك بعد أن قررت السلطة والرموز المتنفذة في حركة فتح هجران بقية أشكال النضال التحرري باستثناء الخيار التفاوضي مع المحتل الغاصب للأرض والحقوق .

لجأت السلطة إلى ldquo;بيت العربrdquo; الذي هو الآخر لم يعد يستسيغ الحديث عن مقاومة المحتل وإن كانت مقاومة سلمية، فكان أن أشاح ldquo;بيت العربrdquo; بوجهه عن السلطة ورئيسها في قمة سرت الأخيرة . الآن الجميع في ورطة . المفاوضات بابها مسدود والباب الآخر يقود إلى التصادم مع واشنطن، وهذا لا تسمح به ldquo;ظروفrdquo; المؤسسة الرسمية العربية في الوقت الراهن . فأين المفر؟

للتذكير فقط، فإن الولايات المتحدة عندما تشعر أن ldquo;لغة الكلام قد تعطلتrdquo; بينها وبين أحد أطراف التجاذب المصلحي في الساحة الدولية، فإنها لا تتردد لحظة في اللجوء إلى لغة العقوبات ldquo;لتزييتrdquo; عملية التفاوض بينها وبين ذلكم الطرف وrdquo;تسليكهاrdquo;، حتى لو كان هذا الطرف حليفاً ldquo;لدوداًrdquo; مثل أوروبا . وأوروبا أيضاً بدورها تفعل الشيء نفسه، فكثيرة هي عدد المرات التي استخدمت فيها أوروبا سلاح العقوبات ضد أمريكا عندما تصل خلافاتها التجارية معها إلى طريق مسدود .

لا أدري إن كان القادة العرب واعون تماماً للحماس الأمريكي المنطقع النظير لإتمام عملية فصل جنوب السودان عن شماله في الموعد المضروب والعمل المثابر والمتواصل على كل المستويات الأمريكية وفي مقدمتها الرئاسة لتأمين ldquo;إنجاز هذه العملية التي تشبه عمليات السي .آي .إيه السرية في أمريكا اللاتينية وفي أنحاء أخرى في العالمrdquo;؟

فلقد صار جلياً أن ما تستهدفه واشنطن من هذا الانقلاب الجيوسياسي النوعي في القارة الإفريقية هو تعزيز توأم روحها ldquo;إسرائيلrdquo; في القارة الإفريقية على حساب مصر التي ستكون أمام واقع نشوء دولة مجاورة، وربما متحالفة مع أثيوبيا وتشاد، على مقربة من حدودها وحدود ليبيا .

ويمكن أن يشكل المشروع الأمريكي لتقسيم السودان ldquo;بروفة لمشاريع أمريكية مماثلة في المنطقة العربية إذا لم ينجح العرب في إفشال هذا المشروع التقسيمي للسودان كما نجحوا في إفشال مشروع واشنطن لتقسيم العراق .

واشنطن تلعب بالنار من جديد . وهي تدرك أن جريمتها هذه سوف تؤدي إلى مزيد من سفك الدماء في السودان، ومع ذلك فإنها سائرة في مخططها العدمي .

المسؤولون الجنوبيون في السودان هم اليوم سكارى حتى الثمالة بنشوة انفصالهم الموعود أمريكياً وأوروبياً . وهم بهذا لا يتصرفون بحكمة ومسؤولية، إذ يعلمون أن هرولتهم وراء هذا الوهم ستقود إلى حرب طاحنة ومدمرة للجنوب ولأهل الجنوب في السودان قبل بقية الأقاليم السودانية .