وائل مرزا
laquo;عمال المنجم التشيليون يبدأون حياةً جديدة ويتأقلمون مع الحريةraquo;، laquo;عمال المنجم التشيليون يحصلون على أول وجبة ساخنة خلال الأسابيع الثلاثة السابقةraquo;، laquo;عمال المنجم التشيليون المحاصرون يحصلون على نصائح من وكالة ناساraquo;، laquo;عملية إنقاذ عمال المنجم التشيليين، تغطية حيةraquo;، laquo;العمال التشيليون المحاصرون يتنافسون حول من سيتم إنقاذه كآخر شخصraquo;، laquo;العمال التشيليون المحاصرون يقضون 18 يومًا على قطع من لحم التونا والحليبraquo;، laquo;البابا يصلي من أجل العمال المحاصرين في تشيليraquo;، laquo;مكافآت للعمال الناجين في تشيليraquo;.
العناوين السابقة هي على التوالي من المنابر الإعلامية التالية: وكالة الأسوشياتدبرس، هيئة الإذاعة البريطانية BBC، قناة فوكس الأمريكية، صحيفة الغارديان، صحيفة لوس أنجلوس تايمز، صحيفة الدايلي تلغراف، صحيفة كاثوليك هيرالد، صحيفة نيويورك تايمز.
والحقيقة أنه قد لا تكون هناك وسيلة من وسائل الإعلام في العالم إلا وتناولت الموضوع المقصود في العناوين المذكورة أعلاه. ابحث مثلًا عن جملة (عمال المناجم المحاصرين في تشيلي) بالإنجليزية فقط في موقع غوغل، وستحصل على أكثر من 250 مليون مصدر للمعلومات عن الموضوع. علمًا أنه كان يوجد في موقع المنجم مع نهاية الحدث قرابة 1000 صحفي ومراسل من جميع أنحاء العالم. وفي أمريكا على وجه التحديد، كان الخبر دائمًا على شاشة رادار كبريات وسائل الإعلام لأكثر من شهرين، ثم إنه أصبح الخبر الأول في الأيام الأخيرة التي سبقت إنقاذ العمال وخلال عملية الإنقاذ التي نقلتها آلاف المحطات التلفزيونية في العالم بشكلٍ مباشر.
لايمكن إلا أن تتعاطف مع 33 عاملًا من عمال المناجم في تشيلي كانوا محاصرين في المنجم الذي يعملون فيه منذ تاريخ 5 أغسطس الماضي، وتم إنقاذ آخر واحدٍ منهم يوم 14 أكتوبر الحالي قبل بضعة أيام من نشر هذا المقال.
ولكن دعونا نقارن. قبل حصول حادثة المنجم بشهرٍ واحد فقط حصلت الفياضانات الكبرى في باكستان والتي أدت إلى مقتل أكثر من ألفي إنسان، وإصابة أو تشريد أكثر من 21 مليون إنسان، وتدمير أكثر من مليون منزل حسب تقديرات الأمم المتحدة. وقبلها بأقل من سنتين، هاجمت إسرائيل غزة فيما تسميه موسوعة ويكيبيديا (حرب غزة) وتُعرفّها على أنها laquo;صراعٌ مسلح دام ثلاثة أسابيع في قطاع غزة وجنوب إسرائيل خلال شتاء 2008 ndash; 2009raquo;. استُشهد في الهجوم الذي لا يمكن اعتباره كارثةً طبيعية بأي مقياس قرابة 1500 فلسطيني، وتمّ تدمير االبنية التحتية للقطاع وتشريد عشرات الآلاف من العائلات.
لانريد الدخول في تفاصيل مقولة المعايير المزدوجة. فقد باتت معروفةً ومكرورةً لايحتاج القارىء إلى مزيدٍ من الحديث فيها.
لكن المقارنة بين ردّ الفعل العالمي، والغربي خاصةً، على حادثة عمال المنجم من ناحية، والحدثين الآخرين من ناحية أخرى، لا يمكن إلا أن تثير أسئلةً لا نهاية لها بخصوص النظام العالمي المعاصر، خاصةً فيما يتعلق بمنظوماته الإعلامية والسياسية والاجتماعية.
مرةً أخرى. قد يكون الحديث عن أزمةٍ عميقةٍ تعيشها البشرية اليوم مكرورًا. لكن من الصعوبة بمكان، وأنت تعيش المشهد، أن تتجنب شعورًا عميقًا ومؤلمًا بطبيعة تلك الأزمة. وبضرورة القيام بشيء، أي شيء، للتعامل معها.
ربما يتطلب الأمر إيراد جوانب إضافية من المشهد المذكور. ففي بداية الأزمة، وبعد أن تبين أنّ العمال أحياء، نشرت مجلة ناشونال جيوغرافي الرصينة بحثًا عن طبيعة التحديات النفسية والجسدية التي سيواجهها العمال إلى حين إنقاذهم. وبعد جهود دولية مشتركة لإيصال المؤن إلى العمال المحاصرين، طمأنت صحيفة واشنطن تايمز القراء أن العمال باتوا يحصلون على خدمات غسيل ثيابهم، وعلى ثلاث وجبات ساخنة يوميًا، وأنهم يشاهدون التلفزيون، ويتناولون الآيس كريم كحلويات بعد الطعام! هذا فضلًا عن إمكانية إجراء محادثات بالصوت والصورة مع أهلهم. وأنه يتم اختيار أفلام معينة تحتوي على معاني تساعد على الصمود يتم إرسالها إليهم، مع التأكد من عدم اختيار أفلام درامية مؤثرة.. وأوردت وكالة الصحافة الفرنسية خبرًا قبل بدء عملية إنقاذ العمال مباشرة أنهم يتلقّون جلسات في كيفية إتقان الحديث مع الإعلام والعلاقات العامة، وذلك حسب تصريح الدكتور ألبرتو إتورا رئيس فريق علماء النفس المرابط عند موقع المنجم لمساعدة العمال منذ بداية الحادثة. كما نقلت الوكالة نفسها أن هناك فيلمًا بدأ إنتاجه فعلًا حول هذه القصة وبعنوان laquo;الثلاثة والثلاثونraquo; يتحدث عن بطولة العمال والمُنقذِين.
هل تكفي كل إشارات الاستفهام والتعجب في الدنيا للدلالة على معاني المفارقة بين طريقة تعامل العالم مع الحوادث المذكورة في هذا المقال؟
تساءلتُ عن الموضوع أمام صديقٍ غربي، فأطرق قليلًا ثم قال بمزيجٍ من المزاح والجدية: laquo;ربما تكون المشكلة أن العرب والمسلمين يموتون بسرعةraquo;.
هل تكون تلك هي المشكلة حقًا؟ لقد استغرقت فيضانات باكستان بضعة أيام وانقضت (حرب غزة) خلال ثلاثة أسابيع، في حين (صمد) العمال التشيليون لأكثر من شهرين. نترك للقارىء الكريم التفكير بهذا اللغز. سيما وأن البعض في الغرب لايرون فيما يبدو أن ثمة مشكلة في النظام العالمي الذي نتحدث عنه.
فقد كان من المفارقات اللافتة أيضًا في الموضوع المقالُ الذي كتبه دانيال هينينغر في صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية بعنوان (الرأسمالية أنقذت عمال المنجم في تشيلي)، حيث شرح الكاتب كيف أن تكنولوجيا الحفر التي أنقذت العمال صنعتها شركة صغيرة الحجم من أجل تحقيق الربح وتحصيل المال. ليمضي في تفصيل كيفية أن هذه الروح الرأسمالية هي التي دفعت أصحاب الشركة والعاملين فيها للإبداع، وبالتالي لإنقاذ العمال. ثم يمضي في شرح كيف أن ما يسميها (معادلة: الربح = الإبداع) كانت السبب في عملية الإنقاذ من خلال عرض مجموعة من التقنيات التي استُعملت خلال الأزمة، وكيف أن هذه التقنيات جاءت من مختلف أنحاء العالم، ولكنها لم تكن لتوجد أصلًا في غياب تلك المعادلة. لينهي مقاله بأنه laquo;لولا أن منظومة الرأسمالية ومعادلة الربح والإبداع تمضي قدمًا في خلفية المشهد الإنساني، ولولا هذا التقدم الذي يجري عامًا وراء عام بناءً على الإبداع الرأسمالي، لكان عمال المنجم المحاصرين أمواتًا اليومraquo;.
ربما يكون في هذا درسٌ آخر للعرب والمسلمين. وربما تكون مشكلتهم أنهم بحاجة إلى المزيد من الإبداع الرأسمالي المذكور..
تعلمُ كمثقف وكإعلامي أن من واجبك المساهمة في تقديم بعض الإجابات. لكن وقائع الراهن الإنساني تُصيبك أحيانًا بحالةٍ من الغثيان والقرف تَصرفك حتى عن القدرة على التفكير.
التعليقات