راجح الخوري

كان يمكن وثائق ويكيليكس ان تتحول تسونامي من الوحل يجرف معه انظمة وحكومات وشخصيات سياسية في بلدان تلطخت بدماء الضحايا والابرياء في العراق، لكن انخراط quot;الامبراطورية الاميركيةquot; في هذا الطوفان من العار، لن يلبث ان يطوي الـ 400 ألف صفحة من الوثائق، التي يندى لها الجبين، بعدما كشفت ما دار في العراق من قتل وتعذيب وخطف واعدامات كيفية وأقبية تنكيل، ومن نهب وسطو وتفجير وظلامات لا تصدّق، وهو ما يجعل فعلاً من هذا البلد المنكوب مجرّد سجن أبو غريب كبير!
ورغم ان هذا الفيض من الوثائق ndash; الفضيحة يحفر في هذه الساعات قبراً كبيراً يتسع لجثتين، هما: سمعة اميركا وصورتها الخارجية، وسمعة الديموقراطية التي ترفع شعاراتها الزائفة وبيارقها الخادعة، فإن من شبه المؤكد ان المسألة لن تكون في النهاية اكثر من عاصفة في فنجان الوجدان الاميركي وحتى العالمي!
هذا امر مؤكد تقريباً ، رغم الاصوات الكثيرة التي علت بعد هول الصدمة التي احدثتها الوثائق، مطالبة بالتحقيق في هذا المسلسل المخيف من الجرائم المرتكبة ضد الافراد وضد الانسانية، وبينها صوت الامين العام لمجلس التعاون الخليجي عبد الرحمن العطية، الذي اعرب عن الدهشة والقلق مما ورد في التقارير عن اعمال قتل وتعذيب على أيدي القوات الاميركية او بمعرفتها، وهو ما يستدعي قيام تحقيق شامل وعادل في جرائم ضد الانسانية شهدها العراق. وكذلك صوت منظمة العفو الدولية، ومنظمة quot;هيومان رايتس ووتشquot;، لكن واشنطن ترفض كل هذه الدعوات، ويقول المتحدث باسم الجيش الاميركي الكولونيل ديف لابان ليس هناك نية لفتح تحقيق، وان دور الجنود الاميركيين اقتصر على وضع تقارير كانت تحوَّل الى السلطة العراقية.

❑ ❑ ❑

فضيحة؟
هي ربما أكثر، لسببين:
❑ أولاً: لان المواطنين العراقيين الذين اطلعوا على مضمون هذه الوثائق لم تأخذهم المفاجأة، فقد اجمع عدد كبير منهم على ان كل هذه الامور الشنيعة معروفة في العراق، وان ليس هناك تقريباً من لا يعرف ان عمليات اعدام ابرياء وقعت امام حواجز الجيش الاميركي بلا مبرر، وان مدنيين قتلوا بعد استسلامهم، وأن معتقلين عُذّبوا بالصعق الكهربائي في اماكن حساسة من اجسادهم او اقتُلعت اظفارهم وكسرت اطرافهم او جرى حرقهم بالأسيد.
❑ ثانياً: لان ما نشره موقع ويكيليكس يشكل وثيقة ادانة صارخة ضد الادارة الاميركية وضد بريطانيا وايران ايضاً، وكذلك وبالتحديد ضد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي تقول الوثائق انه كان يقود فرقاً تمارس الخطف والاعتقال والتعذيب والتصفية الجسدية، وانه انخرط في ممارسة اقسى حالات الامتهان والاساءة والقوة المفرطة مع خصومه.
ولعل ما هو ابشع من وقائع quot;حمام الدمquot; الذي أغرق العراق وتكشف الوثائق جانباً مثيراً منه، ان في الادارة الاميركية من يعمل على مطاردة المسؤولين عن موقع ويكيليكس وانزال العقوبة بهم، بدلاً من ملاحقة المرتكبين الذين قاموا بهذه الاعمال البربرية ومعاقبتهم.
الابشع عراقياً ان نوري المالكي الذي خسر الانتخابات مستمر الآن في محاولة البقاء في رئاسة الحكومة، وان ما كشف عن تورطه في قيادة فرق التعذيب والقتل لن يثنيه عن سعيه هذا (!) لكن الاكثر بشاعة انه كان هناك توافق ايراني اميركي وتركي وسوري على ترئيس المالكي، ولا ندري الآن ما اذا كانت هذه الدول ستواصل دعمه لتشكيل الحكومة الجديدة، التي لن يكون من السهل تشكيلها وسط تسونامي الوحل والدم هذا الذي يجرف المالكي!

❑ ❑ ❑

واذا كان قائد الجيوش الاميركية الاميرال مايك مولن يرى quot;ان نشر الوثائق يهدد حياة الكثيرين ويوفر معلومات قيمة للخصومquot;، فما رأيه في الذين خسروا حياتهم في سياق المذبحة المفتوحة في العراق؟ وما رأي البيت الابيض في الذين صنعوا عبر هذه الممارسات المرعبة اجيالاً من الذين سيخاصمون اميركا؟!
لقد جاء نشر الوثائق في وقت سيئ جداً، سواء بالنسبة الى الادارة الاميركية عشية الانتخابات النصفية للكونغرس في 2 تشرين الثاني المقبل، او بالنسبة الى نوري المالكي الذي ادار فرق القتل والتعذيب، والمُطالب الآن بتشكيل حكومة تضم كل الافرقاء، فكيف؟
لكن حاجة اميركا الى انسحاب بأقل الاضرار من العراق، ومأزقها المتمادي في افغانستان وباكستان، كل ذلك سيعطي ايران دوراً متنامياً اكثر في العراق، حيث تمسك بمعظم الاوراق الشيعية، وهو ما يجعلها قابضة على عناصر قوة اضافية تساعدها في الحوار الصامت مع واشنطن!