الخرطوم - عماد حسن
دفع اقتراح مصري بمباركة أمريكية وبريطانية، يقضي بتأجيل الاستفتاء حول مصير جنوب السودان المقرر له التاسع من يناير/كانون الثاني المقبل، بموجة من التفاؤل بتجاوز القيد الزمني الذي أدخل البلاد في نفق مظلم، والذي لا يسمح المتبقي منه بإنجاز كثير من الملفات الخلافية، فضلاً عن القصور اللوجيستي والفني لإجراء الاستفتاء نفسه .
وطبقاً لموجة التفاؤل تلك، فإن اجتماعات أديس أبابا بين طرفي اتفاقية السلام السودانية ldquo;المؤتمر الوطني والحركة الشعبيةrdquo; التي بدأت أمس، برعاية إفريقية وأمريكية، ستنجح في إزالة التوتر بين الشريكين، خاصة ما يتعلق بالملف الأمني الذي التهب خلال الفترة الماضية بسبب التصريحات النارية من قيادات الشمال والجنوب، والطلب الجنوبي بنشر قوات دولية في منطقة عازلة .
أوساط سياسية ومراقبون تلقفوا المقترح المصري، ورحبوا به معتبرين أنه المخرج الأنسب بل الأوحد للأزمة السودانية الحالية، رغم التحفظات التي برزت في الخرطوم وجوبا، وإن كانت صارخة في العاصمة الجنوبية . وتستند أهمية المقترح إلى اختراقه للموعد المقدس لإجراء الاستفتاء الذي تمسك به المجتمع الدولي والحركة الشعبية، وحظي بالتزام قاطع من حكومة الخرطوم، باعتباره حائط صد لعودة الحرب بين الشمال والجنوب، قبل أن يكتشف الجميع أن العكس هو الصحيح، بعدما انفجرت أزمة أبيي والقوات الدولية .
ويستمد المقترح أهميته من الحراك السياسي المندفع بقوة إلى الموعد المضروب للاستفتاء، ولأن العجلة من الشيطان، كما يقولون، فقد ارتفعت تحذيرات قيادات حكومية ومعارضة من حروب عديدة وليس حرباً واحدة، إذا لم يعترف أيّ من الطرفين بنتيجة الاستفتاء المتعجل، وتنبيهات القيادة الشمالية والجنوبية من صعوبات إجرائه، وإقرار مفوضية الاستفتاء نفسها بعدم اكتمال العمليات اللوجيستية والفنية، والتشكيك في اللحاق بالموعد المحدد .
التفاؤل يأتي بrdquo;أضعف الإيمانrdquo; وهو تجنب صراعات دموية بين الطرفين، وطبقاً لمؤشرات ومتابعات خلال الفترة الماضية، يبدو أن المقترح لم يأت فجأة من القاهرة، بل ولد من رحم القيادات في الخرطوم وجوبا، وتبنته مصر بعدما تلقت وعوداً أمريكية وبريطانية للدفع بمباركة المقترح وتسويقه مرة أخرى وسط أهله، خاصة لدى القيادات الجنوبية حتى يكون مستساغاً، وحافظاً لماء وجه من ينادي بقدسية موعد الاستفتاء .
المقترح الذي ظهر كجزء من منظومة الحلول للأزمة السودانية، سرعان ما تبوأ مكانته المرتقبة، وتعلق به كثيرون وشرعوا في تحسينه ليكون أكثر مقبولية، وليشكل الإطار الجديد لمنظومة الحل . ورغم الاعتراضات الصارخة التي تلت تسريب المقترح والرفض القاطع له، فإن مراقبين يرفعون من حجم توقعاتهم بأن المقترح سيكون طوق نجاة للطرفين، من مغبة الدخول في معترك القيد الزمني وحمل وزر ملفات عالقة بينهما .
ويكشف مصدر دبلوماسي حضر لقاء الوفد المصري برئاسة وزير الخارجية أحمد أبوالغيط ومدير المخابرات الوزير عمر سليمان مع رئيس حكومة الجنوب الفريق أول سلفاكير ميارديت، أن التأجيل المقترح لا يتعدى ستة أشهر، إلى حين الفراغ من حل القضايا العالقة بين الشريكين مع تقديم ضمانات لإجرائه قبل الموعد المحدد لانتهاء ابتفاقية السلام الشامل في التاسع من يوليو/ تموز المقبل .
المقترح الذي تسرب، لا يعده مراقبون بالونة اختبار، لكشف ردود فعل الجنوبيين الرافضين للفكرة، كما تفضل أحد السياسيين، لكنه يبدو في المقابل ldquo;اتفاق اللحظات الأخيرةrdquo; حين تسد كل الأبواب أمام معضلتي الحدود وأبيي، ويراهن المراقبون على اجتماعات أديس أبابا بآليتها الجديدة ممثلة في نائبي رئيس الجمهورية علي عثمان طه وسلفاكير ميارديت رئيس حكومة الجنوب . وهو الرهان الذي يعيد للأذهان الاختراق الذي نفذه طه في اتفاقية السلام نفسها حينما سدت الدروب أمام التوصل إلى اتفاق في نيفاشا، ليطير طه إلى هناك ويلتقي جون قرنق ويصل الرجلين إلى التسوية التي أفضت إلى اتفاق سلام نيفاشا .
وتتناسق تصريحات أطلقها ثابو إمبيكي الذي يقود الجولة الأخيرة لمحادثات الشريكين بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا، مع ذلك الرهان، حين قال إن الاجتماعات التي سيحضرها المبعوث الأمريكي للسودان الجنرال سكوت فرايشن لن تقتصرعلى قضية ابيي وحدها، موضحاً أنها ستشمل كافة القضايا محل الخلاف بين الطرفين . وقال إمبيكي إنه التقى نائب الرئيس علي عثمان قبل لقائه سلفاكير، كاشفاً عن لقاء مرتقب بينه وبين الرئيس البشير ldquo;لأن هذه اللقاءات تساعد على وضع خطط جيدة لإنجاح العملية التفاوضيةrdquo; .
وتشير مصادر إلى أن الرفض الأمريكي لفكرة التأجيل، والذي جددته الإدارة الأمريكية على لسان مبعوثها إلى السودان سكوت غريشن والتزامها إجراء استفتائي جنوب السودان وأبيي في موعدهما في 9 يناير/ كانون الثاني المقبل، ليس رد فعل لتسريب مقترح التأجيل، بل هو تأكيد للموقف الأمريكي حتى إشعار آخر، خاصة أن واشنطن دعت في ذات التصريح ldquo;الشريكينrdquo; إلى اتخاذ القرارات والخطوات اللازمة لتحقيق ذلك، وتفادي الإشكالات التي قد يثيرها قيام دولة في جنوب السودان، مثل النزوح الجماعي والخلافات الحدودية، وأن يظل مسيحيون في الشمال وأن تظل أعداد كبيرة من المسلمين في الجنوب، في أجواء سلمية وهادئة . وبالطبع لا تمانع الإدارة الأمريكية لتحقيق تلك الأهداف بأن يكون التأجيل واحداً من الآليات .
وقد بدأ مقترح التأجيل يتخذ مكانه مع بداية زيارة الفريق أول ركن المهندس عبدالرحيم محمد حسين وزير الدفاع السوداني إلى جمهورية مصر العربية، وهي الزيارة التي استبقت زيارة وفد مصري برئاسة وزير الخارجية أبو الغيط ووزير المخابرات عمر سليمان إلى الخرطوم، بل إن زيارة الوفد المصري تم إرجاؤها، حيث كانت مبرمجة قبل زيارة حسين إلى القاهرة، ويرى مراقبون أن ذلك الإرجاء كان ضرورياً ليأتي الوفد المصري بمقترح التأجيل مسنوداً بشرعية ldquo;طلبrdquo; القيادة السودانية .
وتكشف مصادر دبلوماسية أن الأسباب الحقيقية وراء زيارة الوفد المصري تقديم ذلك المقترح وعرضه على الشريكين، وتسويقه انخفاض حالة التوتر وتراجع مؤشراتها مع زيارة حسين إلى القاهرة . وأوضحت أن مصر أجرت اتصالات دولية عديدة وجدت تجاوباً حول تأجيل الاستفتاء بالاتفاق مع الولايات المتحدة وبريطانيا لضمان الاستقرار في السودان، وأشارت إلى أن مصر ظلت تعمل منذ أشهر لبحث ذلك المقترح .
ويفسر مراقبون تصريحات وزير الخارجية المصري أبوالغيط ldquo;استعداد مصر للتدخل والمساعدة لتفريغ أي شحنة تؤثر في العلاقة بين الشريكين وتأمين إجراء الاستفتاء بشكل سلمي يؤدي لمزيد من الاستقرارrdquo;، إلى أن شحنة التوتر لن يزيلها إلا التأجيل، وهو الأمر الذي ألمح إليه أبوالغيط في سياق رد على سؤال عن نشر القوات الدولية، أن تلك العملية ldquo;تستغرق وقتاً طويلاًrdquo; قد يتخطى العام، وهي عبارات تفهم أيضاً على نسق مقترح ldquo;التأجيلrdquo; .
الملف الأمني الذي حمله وزير الدفاع السوداني للقاهرة، وتركيزه على قضية ترسيم الحدود وأبيي، ليس بسبب مهام حسين العسكرية، فالقضية الأمنية تتجاوز تخصص الوظيفة التي عبر عنها الرجل بقوله إن القوات المسلحة لا تدعو للحرب وإنما تدعو للسلام، بل كونه يعبر عن رؤية الحكومة كمبعوث يحمل لمصر أكثر من ملف، وإن كان الأمني هو الرئيس، لتتحقق شروط أن يكون الاستفتاء دعماً للسلام والأمن والاستقرار وليس خصماً عليهم مهما كانت النتائج . ومع تأكيدات وزير الدفاع أن الحكومة السودانية لم تطلب أو تناقش مع القيادة المصرية تأجيل الاستفتاء، إلا أن مراقبين يرون في أن الحراك بين القاهرة والخرطوم وجوباً خلال الأسبوع الماضي لم يكن إلا لهدف واحد هو ldquo;التأجيلrdquo; كوسيلة لغاية تحقيق السلام والأمن والاستقرار .
ويتربع الهاجس الأمني على الاستفتاء بلا منازع، حيث يقول المقدم الصوارمي خالد سعد الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة، إن الفريق أول ال مهندس عبدالرحيم محمد حسين وزير الدفاع حمل رسالة من الرئيس عمر البشير للرئيس المصري حسني مبارك حول التعاون لتجاوز المرحلة المقبلة بالنسبة للاستفتاء في الجنوب، والقضايا المتصلة بموضوعي الوحدة والانفصال، وترتب على زيارة وزير الدفاع الوطني زيارة أبوالغيط وعمر سليمان رئيس المخابرات المصرية .
ومع نفي الناطق الرسمي أن يكون وزير الدفاع طرح على القيادة المصرية موضوع تأجيل الاستفتاء، إلا أنه قال إن الوزير طرح المعوقات التي تقف أمام قيام الاستفتاء في موعده، والمتمثلة في ترسيم الحدود وتحديد الناخبين في استفتاء أبيي . وأشار إلى أن الرئيس المصري اقتنع تماماً بذلك، ودليل اقتناعه إرساله وزير الخارجية ورئيس المخابرات لزيارة السودان، حيث يحملان كل أفكاره ورؤية الحكومة المصرية في هذا الشأن . ويبدو واضحاً أن تلك الرؤية تلخصت في مقترح التأجيل .
والمقترح مع بساطته وسهولة تنفيذه، إلا أنه يواجه برفض كبير، ولايبدو كحل سحري لأزمة السودان، بل ترحيلها إلى مرحلة أخرى ليتاح للجميع خلال فترة التأجيل التقاط الأنفاس وإغلاق الملفات العالقة . وقد أبدت الحركة الشعبية موقفاً متساهلاً بإعلانها ترتيب اجتماع ldquo;طارئrdquo; لبحث مقترح التأجيل، على الرغم من المخاوف التي أبداها رئيس الحركة سلفاكير ميارديت من تداعيات المقترح بين صفوف الحركة وفي الشارع الجنوبي . واحتفاظه برأيه وفقاً لتقارير حول المقترح .
لكن مراقبين يرون في دعوة الحركة الشعبية لاجتماع لمناقشة المقترح، موقفاً إيجابياً، لأنها لم تسمح من قبل حتى همساً بين قياداتها بفكرة التأجيل، فقد كررت كثيراً بشكل قاطع أن موعد الاستفتاء مفصلي في كل مباحثاتها مع الشمال، خاصة بعدما وجد الموعد تقديساً من المجتمع الدولي وتشديداً على إجرائه في التاسع من يناير/ كانون الثاني المقبل .
وكان الوفد المصري رفيع المستوى زار جوبا للدفع بالمقترح على حكومة الجنوب، بعد أن لقي قبولاً من المؤتمر الوطني والولايات المتحدة وبريطانيا، والتزم الوفد لقيادة الجنوب إرجاء الاستفتاء لفترة لا تتجاوز ستة أشهر بعد الموعد المقرر له التاسع من يناير المقبل، أي قبل انتهاء عمر اتفاق السلام في يوليو/ تموز من ذات العام مع تقديم ضمانات إقليمية ودولية للحركة .
والتأجيل طبقاً لمراقبين يسمح بتخفيض تسليح المليشيات ونشر قوات من الشرطة وإقامة نقاط مشتركة على الحدود، وتجنب حدوث النزاعات، ويتيح حماية الرعاة وعدم تقييد حريتهم في التنقل شمالاً جنوباً، ويفسح المجال على الأرض لاحترام حقوق السكان المحلين القاطنين على جانبي الحدود، ولمشورة الإدارة الأهلية لصياغة قوانين تتسق والعادات والتقاليد، وتدرج قبول ما سيسفر عن الاستفتاء، بعيداً عن أسلوب الصدمة الذي سيأتي بردود فعل عنيفة تقود إلى الصراع الذي يحاول الجميع تجنبه .
كما يتيح التأجيل لمفوضية الاستفتاء أخذ أنفاسها، بعدما أقرت بصعوبات تواجه عملها، مثل عدم التزام المجتمع الدولي بسداد ميزانيات المفوضية لتمكينها من عملها، ورهن المجتمع الدولي المساعدة باستجلاب الخبراء والخدمات العينية والبضائع الجاهزة، ويوضح رئيس المفوضية البروفيسور محمد إبراهيم خليل أن المفوضية تعمل في ظروف غير مناسبة وغير مقبولة . بيد أن مراقبين يرون في إعلان المفوضية جدولها الزمني لإجراءات الاستفتاء، أهمية كبيرة في تهدئة النفوس الجنوبية وانتقالها إلى توتر العمليات الفنية واللوجيستية، وتجزئة وقع التأجيل بrdquo;تأجيلrdquo; إعلانه .
السفير جمال محمد إبراهيم مدير دائرة الإعلام والناطق الرسمى باسم مفوضية الاستفتاء، كشف أن الحملة الإعلامية للاستفتاء ستبدأ في السابع من نوفمبر 2010م وتستمر لشهرين وتوقف قبل 24 ساعة من بدء الاقتراع، حيث يحظر بعدها أي عمل إعلامي يروج لأي من الخيارين أثناء وبعد بدء الاقتراع انتهاء بتاريخ الفرز والعد وإعلان نتائج الاقتراع . وأوضح إبراهيم أن السابع من يناير/ كانون الثاني 2010م . سيشهد انتهاء الحملة الإعلامية في منتصف ليلة الثامن من يناير/ كانون الثاني 2010م، مبيناً أن عملية تسجيل الناخبين ستبدأ في الرابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني2010م، وتستمر لمدة سبعة عشر يوماً في كافة مراكز التسجيل في ولايات السودان وخارجه، وحدد الأول من ديسمبر/ كانون الأول 2010 موعداً لقفل باب التسجيل وعرض سجل الاستفتاء لإطلاع الناخبين عليه بقصد إجراء تعديلات في معلوماتهم وأماكن إقامتهم . وأضاف: في السادس من ديسمبر 2010م سيتم نشر وإعلان سجل الاستفتاء الأولي لإطلاع الناخبين لأغراض التعديلات أو الاعتراض على التسجيل، فيما سيتم قفل باب الاعتراض على سجل الاستفتاء الأولي في الثالث عشر من ديسمبر 2010م، وقال إن فترة الاقتراع التي ستبدأ في التاسع من يناير 2011م تستمر لمده أسبوع بحسب القانون .
ويبقي الأمل في اتساع رقعة التفاؤل بتجاوب جنوبي مع مقترح التأجيل، وترحيل الأزمة، بمباركة الأطراف الدولية وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا، ومراقبة مصر وحفظ ماء وجه الحركة الشعبية التي يتوقع المراقبون موافقتها في اللحظات الأخيرة على المقترح، خاصة أنه ظاهرياً لم يأت من شريكها اللدود ldquo;المؤتمر الوطنيrdquo; الذي يدعم المقترح ويحذر من انطلاق جهنم في البلاد إذا انفصل الجنوب بشكل سلمي . ويعرب الكثيرون عن أملهم في أن يصدق الرأي القائل إن الشريكين متفقان أصلاً على التأجيل وينتظران إخراجه بطريقة ذكية بقدر كبير من الحرفية السياسية .
التعليقات