عبدالحسين شعبان

يثير موضوع الاستفتاء حول مصير جنوب السودان 9 كانون الثاني (يناير) 2011 تعارضات واختلافات شديدة، لا بين أهل الشمال وأهل الجنوب والنخب السياسية والفكرية السودانية حسب، بل بين من يؤيد إبقاء الحال على ما هو عليه، على الرغم من أن الحلول المطروحة حتى الآن وصلت إلى طريق مسدود، وبخاصة الحل العسكري الذي جرّبته الحكومات المتعاقبة من دون أن تتمكن من القضاء على الحركة الجنوبية أو تخفيض سقف مطالبها، مثلما لم تتمكن الحركة الجنوبية تحقيق أهدافها بالوسائل العسكرية، وبين من يريد التغيير بأي ثمن .

وكنت قد طرحت هذا السؤال بصيغته الواضحة على الرئيس السوداني عمر حسن البشير في حوار مع نخبة من المثقفين العرب العام 2001 في الخرطوم نقله التلفزيون السوداني وتلفزيون ldquo;المستقلةrdquo; في حوار مفتوح دام ثلاث ساعات، فكان رأيه أنه إذا وصلنا إلى طريق مسدود، فلن يكون غير الاستفتاء، حتى لو تقرر به الانفصال، ولم تعد الدعوات حول الفيدرالية والوحدة الوطنية مجزية بعد تجارب عديدة مريرة، وبعد استقطابات واصطفافات داخلية وخارجية، ليست بمعزل عن تداخل قوى خارجية، على الرغم من أن جوهر المشكلة ومآلها يبقى سودانياً .

وكنت قد كتبت في صحيفة ldquo;الخليجrdquo; الإماراتية بتاريخ 25/8/2010 مقالة بعنوان ldquo;كوسوفو وقرار محكمة لاهاي: أي دلالة مستقبلية؟rdquo; وعدت لمناقشة هذا الأمر حول بلجيكا في ذات الصحيفة بتاريخ 22/9/2010 تحت عنوان ldquo;هل بات انقسام بلجيكا وشيكاً؟rdquo; بالمقارنة والمقاربة ملمّحاً تارة ومفصحاً أخرى عن حالات كثيرة، فلم تعد الأنظمة الشمولية وحدها معرّضة للانقسام كما نعتقد لأسباب إثنية وقومية ودينية، بل إن أنظمة ديمقراطية عريقة، وفوق ذلك فيدرالية تتعرض، للانقسام أيضاً، لكن الفرق بيننا وبينها أنها تتوصل إلى الحلول بطريقة سلمية وحضارية، لاسيما باستبعاد الحرب والنزاعات المسلحة، في حين أن نار العداوة والبغضاء تستمر معنا من دون أن تقينا شرور الانفصال، أو تمكننا من التمتع ببركات الوحدة .

وإذا كانت البيئة الدولية في فترة الحرب الباردة غير مشجعة على الانقسام، فإنها قد أصبحت على العكس من ذلك، لاسيما بعد انتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي من شكل إلى آخر جديد، حيث انقسمت دولاً وكيانات، وشهد العالم قيام دول جديدة، سواء على نحو حضاري، كما حدث في الانقسام المخملي بين التشيك والسلوفاك بعد فيدرالية دامت عقوداً من الزمان، أو من جرّاء حروب ونزاعات وأعمال عنف ودماء غزيرة، كما حدث في يوغسلافيا وبعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة .

أحسب أن الرأي العام العربي منقسم على نحو حاد لدرجة التأثيم والتجريم إزاء موضوع جنوب السودان، الذي غدا مشكلة حقيقية لا يمكن حلّها، وبات التدخل الخارجي، باسم الأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية أو التدخل الإنساني باسم دارفور، تحصيل حاصل طالما وصلت أوضاع السودان الى ما هو عليه الآن، ولأن جميع الاتفاقيات التي جرى التوقيع عليها بين الشمال والجنوب أصبحت من مخلفات الماضي، باستثناء الاستفتاء حول الوحدة والانفصال، فلم يعد من مناص سوى قبول نتائج الاستفتاء، طالما تقرر من الطرفين ولا يمكن التنصّل عنه، وإن حصل ذلك فسيعني اندلاع حرب لا قدر للطرفين على تحمّل نتائجها، ولا مفرّ من ضغوط دولية هائلة ستمارسها قوى متنفذة للوصول إلى ما ستعجز الحرب عن حلّه، وذلك سيعني خسارة مضاعفة، بالحرب وبالإقرار بنتائج لا مهرب منها، وقد تكون أكثر كارثية .

الولادة الجديدة أو إعادة صياغة مشروع الدولة السودانية التي حصلت على استقلالها في العام 1956 كان ممكناً لو توفّرت مستلزمات المشترك الإنساني، وبخاصة حقوق المواطنة الكاملة والمتساوية على قاعدة الحرية والمشاركة والعدالة والهوية الجامعة العامة، مع الاحتفاظ بالهويات الفرعية، التي يمكن أن تكون عامل رفد للهوية الوطنية المتعددة والمتنوّعة والموحدة في الآن ذاته، أما وقد وصلنا إلى حالة العجز، فلا يمكن ندب الحظ أو الحديث عن مؤامرات خارجية وأطماع استعمارية وإن كان ذلك موجوداً، خصوصاً أن المشكلة مستفحلة والخراب شامل والحل في الوحدة المأمولة بعيد المنال، كما أن عوامل الجذب الطوعية الاختيارية أصبحت بعيدة أو غير سالكة، وعلى أية حال فإن نتائج الاستفتاء ستظهر الحقيقة عارية ودون قناع أو ادّعاء .

لعل الجديد في الموضوع السوداني هو السابقة القانونية الدولية التي يمكن التأسيس عليها، وأعني بذلك قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي التابعة للأمم المتحدة في 24 تموز (يوليو) ،2010 القاضي بأن انفصال كوسوفو لا يتعارض مع قواعد القانون الدولي، الأمر الذي أعطى انفصال كوسوفو عن صربيا ldquo;شرعية قانونية دوليةrdquo;، وقد ارتفع عدد الدول التي اعترفت بها إلى 69 دولة رغم معارضة صربيا وروسيا لأسباب قومية ودينية وسياسية .

إن الانقسام والاصطفاف بشأن الوضع السوداني قائم وسيتعمق، ولكنه سيمتد إلى أقطار مختلفة وإلى دعاة الوحدة بأي ثمن، مثلما الى دعاة الانفصال بأي ثمن، ولكن ماذا لو أصبح العيش المشترك مستحيلاً؟ فما السبيل لحل المشكلة الجنوبية، وخصوصاً إذا كان بقاء الجنوب في كنف الدولة القائمة غير ممكن، فإمّا الحرب وحدّ السيف أو الرضوخ والقبول، طالما يصبح الأمر الواقع واقعاً منذ سنوات، إنه مثل الطلاق ldquo;أبغض الحلال عند اللهrdquo; كما وصف لينين ldquo;الانفصالrdquo; في إطار حق تقرير المصير، خصوصاً أن الاتحاد الاختياري الطوعي، تحوّل إلى هيمنة واستعلاء ولم يفضِ الى احترام الحقوق وتأمين المواطنة المتساوية والكاملة حسبما يبدو .

وإذا كان استفتاء الجنوب السوداني سيؤدي إلى الانفصال في أغلب الظن فإن مثل هذه النتائج ستكون حافزاً مشجعاً لشعوب ظلّت تطمح الى اقتناص اللحظة التاريخية للتمكّن من حقها في تقرير مصيرها، وهو ما سترنو إليه الأنظار في شمال العراق ldquo;كردستانrdquo; وهو أمرٌ طبيعي، ولدى أكراد إيران وأكراد تركيا وأكراد سوريا، وإنْ كان الأمر بدرجات متفاوتة، وسنكون في هذه الحال أمام ديناميكية انفصالية، خصوصاً أن هذه البلدان لم تتمكن من حل المشكلة القومية تاريخياً، والتي أدّت إلى تفاقمها وسببت في أزمة الكيانات القائمة .

ظلّت المشكلة الكردية في العراق على سبيل المثال من دون حل، عشية تأسيس الدولة العراقية، لاسيما منذ أن تم الالتفاف على معاهدة سيفر العام ،1920 خصوصاً بإبرام معاهدة لوزان 1923 حيث طويت القضية الكردية، حتى عادت إلى الأروقة الدولية بعد غزو القوات العراقية للكويت في العام 1990 وذاك بصدور القرار 688 الخاص بكفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين ووقف القمع الذي تعرضت له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق، تحت باب التدخل الإنساني والأمر الواقع ،1991 حيث فرض خط العرض 36 ldquo;الملاذ الآمن Safe havenrdquo; وفيما بعد الحظر الجوي No Fly Zone (لجنوب العراق) .

وبعد أن وصلت نصوص دستورية واتفاقيات سياسية بين الكرد والحكومة العراقية إلى طريق مسدود، من دستور العام 1958 الذي أقرّ ldquo;شراكة العرب والأكرادrdquo; إلى دستور العام 1970 الذي اعترف بأن الشعب العراقي مؤلف من قوميتين رئيستين هما العرب والأكراد والذي أعقب اتفاقية 11 آذار حول الحكم الذاتي الذي سن على أساسها قانوناً بالاسم ذاته ،1974 لكن الحرب وعمليات الإبادة تركت ذكريات مأسوية ومؤلمة، بما فيها قصف حلبجة بالسلاح الكيماوي وعملية الأنفال التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من المواطنين الأكراد، ولم يكن ذلك بمعزل عن تداخلات خارجية وصولاً لوقوع العراق تحت الاحتلال في العام 3002 .

وإذا كان الدستور العراقي النافذ 2005 قد أقرّ مبدأ الاتحاد الفيدرالي، وكان برلمان كردستان قبله قد اتّخذ مثل هذا القرار من طرف واحد العام ،1992 فإن استمرار حال الاحتدام وعدم الثقة وبقاء الكثير من المشاكل عالقة، في ظل ضعف هيبة الدولة وعدم استكمال قيام المؤسسات الاتحادية (الفيدرالية)، سيعاظم من نزعات التباعد بدلاً من التقارب، ولعل ذلك سيكون عنصر تشجيع، إذا سمحت به الظروف وإذا أصبح العيش المشترك مستحيلاً، عبر تضخيم الذات أو محاولة فرض حلول من طرف واحد، أو الشعور بضرورة الاستقلال كيانياً بما يحقق الطموح المشروع في إطار حق تقرير المصير .

إن الدرسين السوداني الجنوبي والعراقي الكردي وغيرهما يؤكدان على نحو لا لبس فيه أو غموض، أن نظاماً يلبّي الحقوق ويقرّ بمبادئ المواطنة المتساوية والكاملة، ويحترم الهويات الفرعية سيكون أساساً سليماً للوحدة الجاذبة الطوعية، الاختيارية، طبقاً لمبدأ حق تقريرالمصير، وعلى العكس من ذلك، فإن أية وحدة لن تدوم ما دام الفريق المُضطَهد تاريخياً، يعتقد بانعدام المساواة وبالحيف والغبن، فضلاً عن الرغبة في التمكّن من التعبير عن حقوق أصيلة لا تتعارض مع القوانين الدولية، عندها سيكون الأمر الواقع واقعاً .

إن السبيل القويم للحفاظ على وحدة وطنية سليمة يتطلب الإقرار بالحقوق الإنسانية والتعددية والتنوّع الثقافي، وبالمساواة والمواطنة الكاملة، القائمة على العدل وأولاً وقبل كل شيء احترام إرادة البشر وحقهم في تقرير مصيرهم بحرية ودون إكراه .