يوسف نور عوض


يتركز الاهتمام في الخرطوم في هذه الأيام حول قضية الاستفتاء المزمع إجراؤه في جنوب السودان في التاسع من شهر كانون الثاني/ يناير المقبل، ويتبادل الجانبان الاتهامات والتهديدات التي تعكس مناخا سياسيا ليس من الصعب قراءته، فمن ناحية يقول حاكم ولاية بحر الغزال العميد رزق زكريا إن حكومة الخرطوم لم تف بالتزامات اتفاقية السلام، وتوقع في ختام الاحتفال بذكرى جون قرنق وإزاحة الستار عن نصبه التذكاري أن تنشأ حرب بين ولايته وجنوب دارفور بسبب عدم ترسيم الحدود في منطقة حفرة النحاس وتسليمها لولاية غرب بحر الغزال، وهدد الحاكم بأن ولايته ستحدد مصيرها في التاسع من كانون الثاني/ يناير المقبل سواء وافقت الحكومة السودانية على الاستفتاء في موعده أم لم توافق.
وفي الوقت ذاته قالت حاكمة ولاية واو اب نيادينق إن الجنوبيين ارتكبوا خطأ تاريخيا في عام 1947 عندما اختاروا الوحدة بدلا عن الانفصال. ودعت مواطني الجنوب إلى تحرير أنفسهم بصورة نهائية من قبضة الشمال.
ولا تقتصر هذه المواقف على بعض حكام الولايات فقد هدد باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية بأن أي تأجيل للانتخابات سينتهي بقرار جنوبي بوسائل أخرى لتحقيق ما يريده الجنوبيون الذي هو من وجهة نظره الانفصال. والسؤال المهم هو إذا كان الجنوبيون متفقين على مثل هذه المواقف الحاسمة فلماذا يصرون على الاستفتاء، ولماذا لا يتخذون ما يريدونه من خطوات حتى بدون استفتاء؟ والإجابة هي ببساطة لأن كثيرا من القيادات الجنوبية تدرك أنها لن تحصل على التأييد الدولي إذا اتخذت خطوة من هذا القبيل، ولذلك هي تريد الاستفتاء من أجل التغطية على النوايا الحقيقية وهي الانفصال، ولا يعني ذلك أن هذا هو خيار شعب الجنوب، إذ هو في الحقيقة خيار النخب الطامحة في الحكم وهي نخب لا تمثل الجنوب بأسره لأن قيادة الحركة الشعبية التي معظمها من الدينكا لا تمثل قبائل الجنوب بأسرها، فهي لا تمثل الشلك والنوير والباريا وغيرها من القبائل وبالتالي فلا يحق لها أن تتحدث باسم قبائل الجنوب باسرها.
ومن ناحية أخرى فهناك أيضا مواقف متباينة في الخرطوم فقد اتهم رئيس مفوضية الاستفتاء محمد إبراهيم خليل بعض الأعضاء الجنوبيين في المفوضية بأنهم يعملون من أجل إقصاء الأعضاء الشماليين، وكأثر لذلك هدد خليل بتقديم استقالته من رئاسة المفوضية، وفي الوقت ذاته أكد محمد إبراهيم خليل أن المدة المتبقية لإجراء الاستفتاء غير كافية وبالتالي فقد قدم طلبا إلى رئاسة الجمهورية طالب فيه بتأجيل الاستفتاء ولم يقدمه للحزب الوطني، أما الحزب الوطني فقد أكد كخطوة معاكسة أنه لن يترك الباب مفتوحا بشأن الحريات الأربع أمام الجنوبيين، وهي التي تمنحهم الحق في الإقامة والتملك وغيرها من المزايا في حال اختيارهم الانفصال عن شمال السودان. ويدل هذا الموقف من المؤتمر الوطني على أن الأوضاع لن تكون عادية إذا اختار الجنوب الانفصال بمعنى أن الجنوب سيواجه صعوبات كبرى في الاتصال بالعالم الخارجي عبر شمال السودان، وهو المنفذ الوحيد له إلى هذا العالم إلا إذا قرر الجنوب أن يتجه جنوبا إلى الدول الأفريقية وبالتالي، فلن تكون أحواله السياسية أفضل مما كانت عليه مع شمال السودان.
ويلاحظ أن المواقف الأمريكية نفسها بدأت تتأرجح في هذه المرحلة خاصة بعد الخلاف الذي نشأ بين المندوب الأمريكي سكوت غرايشن الذي يرى أن على الولايات المتحدة أن تمنح الاستفتاء أولوية قصوى وهو ما لا تراه سوزان رايس مندوبة الولايات في الأمم المتحدة التي لا تريد أن تقلل بلادها من أهمية قضية دارفور، ويبدو أن غرايشن قد كسب هذه الجولة إذ هناك دلائل على أن الحكومة الأمريكية تنوي تغيير مواقفها من الحزب الوطني الحاكم في السودان من أجل دفعه لتغيير سلوكه على الرغم من التفكير في تعيين غرايشن سفيرا للولايات المتحدة في كينيا. أما أحمد حسين آدم الناطق الرسمي باسم حركة العدل والمساواة، فقد شن هجوما واسعا على نظام الحكم في الخرطوم واتهمه بالكذب والافتراء والقيام بأعمال الإبادة في دارفور، غير أن الجديد في كلامه هو قوله إن حركة العدل والمساواة على علاقات جيدة مع الحركة الشعبية من أجل إيجاد مخرج استراتيجي في السودان، ويعني ذلك بكل تأكيد أن حركته قد تسعى إلى الهدف نفسه الذي تسعى إليه الحركة الشعبية وهو الانفصال، إذ كيف يكون هناك هدف استراتيجي دون أن يكون قائما على الهدف النهائي للحركة الشعبية.
وإذا نظرنا إلى معظم هذه التوجهات الانفصالية وجدنا أنها لا تقوم على أسس موضوعية بل تحركها نخب ضد عدو وهمي وهذا ما يحدث في غرب السودان حيث حركات التمرد تتحدث عن كل شيء ما عدا الهجرة غير المنتظمة إلى أقاليم تلك المناطق من السودان في وقت يقول فيه الخبراء إن دارفور وحدها دخلها أكثر من سبعة ملايين مهاجر من دول غرب أفريقيا كما أن الجنوب ظل مفتوحا لكثير من الدول الأفريقية الأخرى، فهل هؤلاء المهاجرون هم الذين يولدون المشاكل في تلك الأقاليم؟ سؤال يجب أن يتوقف عنده المسؤولون في شمال السودان وأعتقد أنهم قد توقفوا عنده بعض الوقت كما ظهر ذلك في اللقاء الذي أجراه اللواء عبد الرحيم حسين وزير الداخلية في مركز الدراسات الإستراتيجية في جريدة الأهرام المصرية، وهو لقاء يجدر الوقوف عنده.
تحدث وزير الداخلية في ذلك اللقاء عن اتفاق الحريات الأربع بين السودان ومصر، وقال في حديثه يجب أن ينظر إلى هذا الاتفاق من المنظور الاستراتيجي، خاصة بعد التحولات التي ستحدث بعد استفتاء جنوب السودان، وأكد الوزير على أن الاتفاق الذي يعطي مواطني البلدين الحق في التنقل والإقامة والتملك وغير تلك من الحقوق هو خطوة مهمة في طريق الوحدة في وادي النيل، ذاكرا أن الجزء الممتد من الخرطوم إلى وادي حلفا في وادي النيل هو أطول من جزء هذا الوادي في داخل الأراضي المصرية، ومع ذلك يعيش سبعون مليونا من المواطنين المصريين على ضفاف النيل في بلادهم، بينما يعيش أقل من مليوني سوداني في المساحة الممتدة من الخرطوم إلى وادي حلفا، وتساءل كيف سيكون حال مصر عندما يبلغ عدد سكانها مئة مليون نسمة، وليس لديهم سوى عشرة ملايين فدان يعيشون عليها بينما يمتلك السودان أكثر من مئتي مليون فدان كان من الممكن أن يتوجه إليها المصريون بدل محاولتهم إقامة مشروع توشكى والتوجه نحو الصحراء التي أنفقوا في سبيل إعمارها أموالا كان من الممكن أن تعمر أضعاف المساحات التي عمرت في مصر، وقال الوزير إن مصر ظلت خلال خمسين عاما تتجه نحو الشمال أي نحو العالم العربي دون أن تعرف ان مستقبلها كله يتركز في السودان
ويبدو أن هذا التفكير الاستراتيجي قد بدأ بالفعل يستهوي النظام السياسي في الخرطوم ليس من منظور تقديم المساعدة لمصر فقط بل أيضا لأنه الضمان الوحيد لكي يظل وادي النيل قويا أمام موجة الإنفصالات الاقليمية والجهوية في أقاليم السودان المختلفة إذ لم يبق أمام سكان وادي النيل في السودان إلا أن يتوجهوا صوب مصر من أجل إيجاد الدعم واكتساب القوة ولعل مجرد التفكير في هذا الاتجاه سوف يجعل كثيرا من الانفصاليين يعيدون النظر في توجهاتهم، والمقصود هنا ليس هو أن تقدم مصر دعما للسودان فقط بل أن تدرك ايضا أن قوتها تكمن في قوة السودان وأن أي تهديد لأمنه هو في النهاية تهديد لمصالحها الإستراتيجية ولا نقول إن مثل هذا التفكير أصبح سائدا في السودان لأن الكثيرين هناك مازالوا يفكرون من وجهة نظر لا تتسم بالاتساع في رؤية القضايا الإستراتيجية، وهم يضيعون وقتا كثيرا في الحديث عن ترتيبات الاستفتاء في جنوب السودان دون أن يتحدثوا عن شرعية هذا الاستفتاء في بلد موحد مع معرفتهم وعلمهم المؤكد بنوايا النخب الجنوبية.