عبدالرحمن الحريّص

في الأسبوع الماضي اجتمع مجلس الأمن القومي التركي لتحديث الوثيقة السياسية للأمن القومي laquo;الكتاب الأحمرraquo;، وهي وثيقة يتم من خلالها تحديد عناصرالتهديد الداخلية والخارجية واستراتيجية الدفاع، أجرى القادة الأتراك تعديلات جوهرية على تلك الوثيقة، فقد أخرجوا سوريا واليونان وروسيا وإيران من قائمة الدول التي تشكل خطرا على أمنها القومي، ووضعوا الأخيرة مع إسرائيل كدولتين تشكلان خطرا نوويا على تركيا، أيضا استبدل أولئك القادة تعبير خطر الرجعية والجماعات الإسلامية بخطر التنظيمات المتطرفة دينيا، بالإضافة إلى تعديلات أخرى.
يشمل المجلس الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء المعنيين بالداخلية والدفاع والخارجية وقادة الجيش والاستخبارات، لم يجلسوا لمناقشة خلاف الجيش مع الحكومة، فالأمن القومي أهم بكثير من تلك الخلافات، فهم يكتبون وثيقة ترسم محددات واضحة للسياسة التركية تنطلق من الأمن القومي التركي، وهي ليست وثيقة حكومية، بمعنى أنه لو تغيرت حكومة العدالة والتمنية وجاءت حكومة جديدة ستبقى هذه الوثيقة سارية المفعول إلى خمس سنوات قادمة.
تأملت المشهد كثيرا، إنهم قادة منتخبون، إذن هم شرعيون، يكتبون وثيقة قابلة للتعديل كل خمس سنوات وهذا يدل أن هنالك وعيا قويا وإدراكا للمتغيرات السياسية. لذا هنالك مراجعة وإعادة تقييم، الوثيقة اسمها وثيقة الأمن القومي، إذن: هم قادة مستقلون شرعيون يحكمون دولة تامة السيادة فهم وحدهم من يحدد ويرسم سياسة الأمن القومي وهم من ينفذها. كل العناصر السابقة هي أساس ضروري لرسم سياسة متينة لأمن قومي قوي.
هكذا كتب الأتراك وثيقة أمنهم القومي، فمن يكتب وثيقة الأمن القومي العربي، وهل هناك أمن قومي عربي أصلا. ففلسطين محتلة منذ أكثر من ستين عاما، والعراق محتل منذ سبع سنوات، والسودان يتجه للانفصال، والصومال يعيش فوضى عارمة منذ مطلع التسعينيات، والجزر الإماراتية لا تزال محتلة، واليمن على حافة الهاوية، ولبنان ليس لبنانيا خالصا، وإيران تسرح وتمرح كما تشاء بالعراق وغيره، وأمن الخليج همّ لا يزال يساور قادته، والخلافات البينية العربية العربية تسير على قدم وساق.
والسؤال هنا: ما الذي أوصلنا إلى هذا الحال؟!
إن العناصر اللازمة لكتابة وثيقة أمن قومي عربي غائبة تماما، فلا يمكن لصاحب الشرعية المقلوبة التي تستمد من الخارج لا من الداخل أن يكون مؤتمنا على الأمن القومي، إنه يعتقد أن الأمن القومي يبدأ من تأمين كرسيه أولا، ولا يمكن لبائعي الأوطان أن يتحدثوا عن أمن قومي عربي، ولا يمكن لحكام يحكمون لعشرات السنين وغارقين بالفساد المتشابك داخليا وخارجيا أن يقوموا بإعادة تقييم ومراجعة صادقة وباستقلالية تامة.
في البلاد العربية نفتقد المشروع، نفتقد الاستراتيجية، منطقتنا تحكم باستراتيجية الفوضى ودولة اللا مؤسسات ونظام اللا قانون.. نعيش في بلاد عربية فاقدة الذاكرة، معمية البصر والبصيرة، فهي لا تستمد شيئا من سنا الماضي ولا ترى المستقبل ولا تدرك الواقع وتتلذذ بالانقياد.
المستقبل هنا ضبابي والصورة غير واضحة والشعوب أنهكت فلم تعد تقوى على أن تقيم ظهرها وترفع رأسها لتطالب بحقوقها.
هذا ليس جلدا للذات بل هو توصيف للواقع لا أكثر، يجب أن نكون صريحين مع أنفسنا، فأولى خطوات العلاج هي في تشخيص الداء، لذا يجب أن يدفعنا هذا الواقع البائس لا إلى الاستسلام بل إلى العمل الجاد للتغيير، والشعوب دائما هي من تصنع التغيير، يتحقق ذلك بحراك شعبي إيجابي وبخطى مدروسة وثابتة.
وختاما أقول: في الدول الديمقراطية الكل يعرف كيف يصنع القرار في المطبخ السياسي، فهناك مؤسسات وحكومات شرعية منتخبة تتولى صنع القرار السياسي، أما في مطبخنا السياسي العربي فـlaquo;الشيفraquo; مفقود وlaquo;الطاسةraquo; ضائعة.