عبد العزيز المقالح

يتحدث البعض عن ضمور الذاكرة العربية بدلاً من الحديث عن موت هذه الذاكرة . والدليل على أنها باتت في ذمة الله أن العرب، حكاماً ومحكومين، لا يتذكرون شيئاً عن سلسلة المخططات التي كانت جاهزة منذ عقود لتفكيك الوطن العربي أكثر مما هو مفكك . وكان المخططون قد نجحوا سابقاً في تقسيم الوطن العربي إلى مجموعة من الأقطار، وأتبعوا ذلك بإقامة ldquo;جامعة عربية!rdquo; تحمي وتبرر قطرية هذه الدول . ولم يكتف المخططون بذلك النجاح، بل بدأوا في الإعداد لتفكيك أوسع لهذا المفكك، ومن خلال الخرائط التي يتم تسريبها بين حين وآخر يتبين خطورة المشاريع المعدة لتفكيك المفكك وتفتيت المفتت .

ومن هنا لم يكن مشروع تقسيم السودان جديداً، وهو يعود إلى ما قبل استقلاله في منتصف خميسنات القرن المنصرم، فالاحتلال الأجنبي لم يخرج من هذه البلاد إلا بعد أن هيأ لتقسيم السودان إلى شمال وجنوب، والآن، لم يعد التقسيم قاصراً على شمال وجنوب بل بات يهدد بتقسيم السودان إلى أربع دويلات جنوبية وغربية وشمالية وشمال شمالية . ولن يكون ذلك شأن السودان وحده، بل يشمل المخطط التفتيتي كل الأقطار العربية بما فيها تلك التي باتت شظايا من الجسد العربي الكبير إذ لا يزال المخططون يرون أن مصلحتهم تقتضي المزيد من هذا التشظي . ولعل العراق هو المرشح الثاني بعد السودان للتقسيم، والمثير للقلق أن قطاعات كبيرة من مواطني هذا البلد تتحرك بلا حياء ولا خجل في هذا الاتجاه المخيف . كما أن مشروع فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة في فلسطين كان ولايزال ضمن هذه المشاريع المشبوهة، وقد تضمنته وثيقة سرية كانت ضمن الوثائق المحفوظة في مكتبة الكونغرس الأمريكي .

وما يؤلم أكثر أن النظام العربي يرى ويسمع ثم لا يحرك ساكناً، إما لأنه مقتنع بأن التقسيم بات وارداً ولا مفر منه، أو لأن حالة من التبلد قد تلبسته إلى درجة لم يعد يعي هذه المخاطر أو يملك من الإمكانات والقدرات ما يجعله يقف مجتمعاً أو منفرداً في مواجهته، وتحدي كل المحاولات المشبوهة والهادفة إلى تحويل أقطاره الحالية إلى شرائح وشظايا يسهل ابتلاعها وهضمها وتحويلها في أحسن الأحوال إلى توابع تدور في فلك القوى الساعية والواقفة وراء تلك المخططات التي لم تكن جديدة كما سبقت الإشارة، بل تعود إلى ما قبل عقود وإلى سنوات ما قبل هزيمة الاحتلال المباشر وما اظهرته الأمة العربية من مقاومة وتحديات شاملة .

ومن الواضح أن الرد على هذه المخططات كان ممكناً، بل وأكثر من ممكن في البداية، ليس من خلال التوعية بمخاطر التقسيم والتشرذم فحسب، وإنما من خلال تصحيح الأوضاع السياسية والاجتماعية، وتعميق روح المواطنة، ومحاربة استئثار فئة من الفئات بالحكم . ومن يتابع تاريخ السودان الحديث - على سبيل المثال - يدرك أبعاد التقصير الذي تم في حق الجنوب، وعدم التنبه لمخطط التقسيم ومواجهته بنشر التعليم وتحسين الأوضاع الاجتماعية من خلال تنمية إنتاجية وطنية، وتنمية إنسانية شاملة قائمة على فكرة المواطنة، وربط المواطن في الجنوب بمشاعر الوحدة بوصفها قدراً ومصيراً لاسيما بعد أن نجحت ثورة 23 يوليو في إلغاء الشعار المستفز الذي صاحب النظام الملكي في مصر وهو ldquo;ملك مصر والسودانrdquo; وحولته الثورة إلى نكتة تقال للتندر على ما كان عليه حال مصر والسودان قبل عام 1952 .