حسين العودات
أعلن سياسيو العراق أنهم تصالحوا، واتفقوا على صيغة للتعايش (وليس لتحقيق مصالح العراق وشعب العراق)، وشرعوا باقتسام المناصب (وليس المسؤوليات)، واستعد كل منهم ليحوز على نصيبه (من الغنيمة)، ويستأثر بما قدر الله له.
وأخذوا يبيعون الوهم للشعب العراقي، والشعوب العربية مؤكدين أنهم طووا صفحة، وفتحوا صفحة جديدة يزعمون أنهم لا يرون من خلالها سوى العراق وشعبه ومستقبلهما، وتم الاتفاق بسهولة وسلاسة، فلم يكلفهم هذا الاتفاق سوى مبيت ليلة في أربيل، وبدعوة كريمة من مسعود البرزاني، ومصافحات بين الجميع.
ولم يقولوا لنا أنه ما دامت المصالحة والتسوية والاتفاق بمثل هذه السهولة، فلماذا انتظروا إذاً ثمانية أشهر منذ الانتخابات حتى الآن دون أن يتوصلوا إليها، تاركين العراق من دون حكومة ولا سلطة، نهباً للفوضى والعمليات الإرهابية والتآكل والنهب، إضافة إلى التوتر والخوف من استئناف الحرب الطائفية، أو الحرب الأهلية، والاتهامات والاتهامات المضادة.
وإشغال أنفسهم وشعبهم ودول الجوار، والدول الإقليمية كلها، والدول الكبرى خارج الإقليم بمشاكلهم مع أنه كان بالإمكان افتداء الأمر كله، بمبيت ليلة في أربيل بضيافة كريمة من زعيمها، وأحد الزعيمين البارزين للشعب الكردي، ولعل (السهولة) التي تم بها الاتفاق (العتيد) و(الصلح العادل المجيد) هي التي تثير الريبة.
وتجعل المراقب من جهة والمواطن من جهة أخرى، يشكك بجدية الاتفاق وديمومته، ويميل إلى اعتباره اتفاقاً مؤقتاً، وتسوية عارضة، وهدنة بين حربين ستشنها القوى السياسية العراقية، بعضها ضد البعض الآخر. هل هذا تشاؤم؟
نرجو أن يكون كذلك، ولكن النظرة الجادة للمعطيات المتوفرة في العراق، والظروف القائمة فيه، والشرط الموضوعي الضابط لتطوره، والذي لا ينبغي لوطني أو مسؤول أو محلل محب للعراق أن يتجاهله، تشير جميعها لمثل هذا الاستنتاج القائل أن الكتل السياسية العراقية توصلت في الواقع إلى هدنة بين جولتين، وفرصة هي استراحة المحارب أكثر منها انتهاء الحرب.
عادت الكتل السياسية العراقية من جديد، بعد تصالحها، إلى المحاصصة التي انتقدتها طوال أشهر بل سنوات، وألقت مسؤوليتها سابقاً على بريمر وحده، وحاولت تبرئة نفسها من آثامها وسوءاتها، وها هي عندما امتلكت ناصية الأمور، وتصالحت، عادت من جديد لتشترك بالإثم.
ولتكرس محاصصة الرئاسات الثلاث (الدولة والمجلس النيابي والحكومة) تكريساً أبدياً، فمن يجرؤ بعد الآن أن يقبل بغير هذه المحاصصة، وهل لدى الأحزاب والكتل السياسية العراقية الجرأة لتقبل إسناد رئاستين لطائفة واحدة، أو لأبناء القومية الكردية مثلاً، أو عدم تخصيص رئاسة لهذه الأخيرة؟.
لقد أصبحت المحاصصة الطائفية جوهر السياسة العراقية الراهنة، بل جوهر النظام السياسي برمته، والأمر بداهة لا يتوقف عند تقاسم الرئاسات الثلاث، بل يتعداه لتقاسم (بالمحاصصة أيضاً) الوظائف الرئيسية في الدولة، وفي الجيش، وقوى الأمن، والقطاع العام، والشركات، واستطراداً تطبيق المحاصصة على توزيع الثروة كما طبقت على توزيع مناصب السلطة.
وهكذا تنتفي إلى أمد بعيد مرجعية المواطنة بالعراق، كما تختفي مفاهيم الدولة الحديثة كالمساواة وتكافؤ الفرص (فمهما كانت إمكانيات العراقي لا يستطيع أن يتولى مسؤولية أو وظيفة هي من حصة طائفة أخرى)، فضلاً عن تغييب بل دفن الديموقراطية، وتداول السلطة، وفصل السلطات (حتى القضاء يخضع للمحاصصة).
وبالتالي، فمن كان يخشى تقسيم العراق إلى ثلاث دول، وجد نفسه أمام عراق من دول يتطابق عددها مع عدد الطوائف الدينية والإثنيات القومية، التي أصبحت هي المرجعيات الحقيقة والمؤثرة، وكأن التجربة اللبنانية صارت مثالاً يحتذى به، والخشية أن تطاول هذه المحاصصة بلداناً عربية أخرى، ويصبح عندها، من ينادي بالوحدة العربية كمن يغني (بالطاحون) باعتبار أن هذه الأقطار العربية (الشراذم) لم تستطع أن تحافظ حتى على وحدة أقطارها فكيف بتحقيق الوحدة العربية؟
لقد زفت الأحزاب والكتل السياسية العراقية بشرى اتفاقها للشعب العراقي والشعوب العربية، وكأن المشكلة تكمن في كيفية تقاسمها قطعة الجبن، ولم يتعرض اتفاقها لمشاكل العراق وشعبه والصعوبات الحقيقية والبنيوية التي يواجهها، ليس فقط في مجال الدمار والخراب في البناء التحتي للبلاد (الطرقات، الكهرباء، الماء، الاتصالات) .
وإنما أيضاً في مجال التعليم وتأمين مستلزماته، والضمان الصحي والاجتماعي، ومعالجة مشكلة مئات آلاف الأرامل، وضعف هذا العدد من الأيتام، وملايين المهجرين، وتفشي الفساد، (فالعراق هو الدولة قبل الأخيرة في الفساد عالمياً حسب إحصائيات الأمم المتحدة) وبيع النفط من دون عدادات (وهو المصدر شبه الوحيد للدخل العراقي) .
وارتفاع نسبة البطالة والفقر والجوع ارتفاعاً مخيفاً، وتحول الجيش إلى ميليشيات يتبع كل منها هذا الزعيم أو ذاك، وقبل هذا إيداع آلاف المعتقلين العراقيين في السجون، من دون تحقيق معهم، أو توجيه تهم إليهم باستثناء أنهم من طائفة بعينها أو تيار سياسي بعينه. إضافة للتدخل المريب من دول الجوار ودول أخرى في شؤون العراق..
وهذا كله أو حتى بعضه لم يتعرض له الاتفاق، وكأن التغلب على مصاعب العراق وحل مشاكله يرتبط باتفاق السياسيين على تقاسم المناصب والمغانم (المحتملة)، وتزيين الاتفاق بالحديث (العارض) عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية دون وجود برامج أو خطط أو مواقف مسئولة أو التزامات جادة نصت عليها بنود الاتفاق.
لقد باع الساسة العراقيون الوهم لشعبهم وللشعوب العربية، ووقفوا يتضاحكون وكان مشاكل العراق قد حُلت، وكأن شعبه وضع قدمه في أول طريق الفردوس، وبدأ يعيش في نعيم ويذوق طعم السعادة بعد اتفاق سياسييه، وأخيراً لا شك أن جميع محبي العراق وشعبه وأهله يتمنون أن لا تكون هذه المصالحة بيعاً للوهم، وخداعاً جديداً بغطاء قشيب.
التعليقات