الإعلام 'تنظيم' وتهذيب وإصلاح
القاهرة ـ كمال القاضي
الإعلام الخاص المتمثل في القنوات الفضائية التابعة لشركة نايل سات يقف في المنطقة الوسطى بين المعارضة والحكومة.
فلا هو حكومي بالمعنى الصريح ولا هو معارض جسور يملك زمام أمره ويتحرر من أغلال السُلطة، الحال والصورة والهيئة تجعله أشبه بالجنس الثالث، ليس ذكرا وليس أنثى.
فمن كان يلعب دور المعارض الشرس على ساحة السجال والحوار والمبارزة بات بعد حملة غلق القنوات ومصادرة برامج 'التوك شو' كائنا وديعا مستأنسا يبتسم ابتسامة عريضة ويلقي بالتحية في أدب جم على أصحاب القرار قبل المشاهدين ويبدأ ليلته أو مساءه بذكر محاسن الحكومة ولا ينسى أن يشير بالآليات الجديدة للحزب الحاكم، فقد هجر تماما نبرة التحدي ورق صوته وصارت ناره بردا وسلاما على قلب الحكومة، ميزة انتخابات مجلس الشعب أنها خلعت الأقنعة عن وجوه معارضي الهواء والبث المباشر وكشفت عن الملامح الحقيقية لكوتا المرأة ليس في المجلس الموقر 'سيد قراره' ولكن في دولة البرامج الفضائية الكارتونية التي قامت ركائزها على خيوط عنكبوتية واهية وأطلقت في فضاء رحب كسفينة بلا قبطان فسقطت من عليائها كطائر فقد جناحيه، ويستخلص من ذلك أن الضربة الموجعة التي وجهت لعدد من القنوات والبرامج والمذيعين هذبت لغة الكلام وادنت الحوار السياسي حتى صار عدما، كما لو كان أصحاب النبرات الحادة والأصوات الجهورة كيفوا أنفسهم على الهمس وآثروا أن يبدأ حديثهم من درجة الـ'دو' وهي الدرجة الأولى في أوتار العزف، خفيفة سلسة، تُسمع ولا تزعج الأذن، تبدأ سهرات المساء بكلمة تحياتي وتنتهي بالسلام عليكم وبين التحية والسلام تكون عمليات الكر والفر والمناورة والمحاولات الذكية لتفادي المطبات والحفر ومقاطعة المتصلين عبر الأثير ـ الحالمين بغد سعيد وحرية إعلامية على مقاس البلد والناس وليس على حجم البرنامج وأوزان المذيعين والمذيعات!
من يتخلى عن الحذر والمخاوف من مقدمي البرامج يقضي الدقائق المسموح بها من زمن الفضفضة في المآسي والمراثي والعويل وشق الجيوب ولطم الخدود، أما من أوتي الشجاعة وحصل على تصريح مسبق بالمواجهة فيستعرض قوته على المحافظين ورؤساء مجالس الإدارات، والمديرون العموم، هم دائما كبش الفداء في تلك الحلقات التي عادة ما تنصبها القنوات الحكومية ويقوم عليها المحاسيب والدراويش من أصحاب البيت والغيط، أي أن كل شيء متفق عليه ولا توجد دبة نملة خارج السياق أو فوق السيطرة، وهكذا تتحدث بعض البرامج بـ'المصري الفصيح' عن المثالب والمساوئ والنواقص فتدخل بقدميها دائرة الخطر فلا يبقى أمامها غير الانتحار أو المهادنة، وبالطبع تكون الثانية هي الاختيار الملائم لكل الأطراف، القناة والبرامج والمذيعة وجهة 'التنظيم والتهذيب والإصلاح'، رباعي الشراكة في منظومة الإعلام الرشيد، حيث 'المانشيت' الزاعق لا يفي بالغرض ولا يحقق الخدمة الممتازة، غير انه فقط يضخ في نيران الغضب ويؤجج حرائق الفتنة السياسية بين التيارات المختلفة في النقابات والهيئات والمؤسسات الصحافية والثقافية وغيرها، لذا يتحتم ايضا التزام الهدوء والانصياع القسري أو الطوعي للسياسة الحكيمة والعمل بقانون العقلاء، من دون الانسياق وراء الشعارات الهدامة، وحيث أن هذا هو بالفعل ما تم تطبيقه فقد لجأ المذيعون والصحافيون النابهون إلى سياسة علو الصوت تعويضا عن انخفاض المضمون لإحداث التأثير السماعي وتحقيق الانبهار الشكلي بديمقراطية مبتسرة غير مكتملة النمو، فالقاعدة تؤكد أنه كلما زاد الصخب قل الإصغاء، ومن ثم انتفت الحاجة إلى اذنين مرهفتين وهذا دليل على أن نتائج الحوار الصاخب لم تسفر عن شيء يذكر، اللهم إلا مجرد إشارة لوجود أزمة في التخاطب وثقافة الحوار والديمقراطية الحقيقية الدالة على حقوق الشعب، ثمة خلل تشي به غوغائية الفضائيات وتؤكده السُلطة أراه مجسدا في غياب خريطة الطريق الصحيح نحو اكتساب أرضية صلبة تقوم عليها قواعد خرسانية لحرية إعلامية منشودة لا تخضع لصكوك الحكومة وقراراتها ولا تعتم بالأساس على 'الجعجعة' بغير طحن وترى في الصوت العالي للمحاورين والضيوف مظهرا صحيا من مظاهر التنفيس، باعتبار التنفيس في حد ذاته مكسبا ومكتسبا جديدا لم يكن متوافرا في عهود سابقة، فهذه هي المغالطة الكبرى لأن الصمت المطبق والصراخ المدوي يتساويان حين لا يكون لكليهما جدوى، وربما ترجح كفة الصمت في ميزان التقييم لأن فيه توفيرا للجهد والوقت والمال فكم من ملايين انفقت على صناعة وصياغة ديمقراطية الفضفضة والهبهبة والثرثرة والطنطنة، وفي النهاية تظل قضية الحرية قائمة وما يحدث ليس أكثر من تمثيلية أو مسرحية متعددة الفصول، المستفيد الوحيد منها هو فضائيات الجلابيب البيضاء والبنطلونات القصيرة واللحى الطويلة، فتلك من راهنت على الخطاب المباشر وطوعت العشوائية لصالحها فلعبت بعقول الأطفال والصبية والمراهقين وحرثت التربة لتنبت آلاف البذور على أرض التطرف وتصير براعماً لقيادات جهادية قادمة تطبق الشريعة الإسلامية بحد السيف وتقتص من المثقفين والمبدعين وكل من يرتكب رجساً من عمل الشيطان، من هنا جاءت خطورة التضييق على الثقافة التنويرية التي بغيابها كان الفراغ مهبطا لثقافات بديلة معادية يطالب أصحابها برؤوس من يختلفون معهم، وإنا لمختلفون حيث الاختلاف والخلاف في هذا المقام يفسد الود في كل القضايا.
التعليقات