محمد نور الدين
يتراءى للمتابع لزيارة رئيس الحكومة التركية، رجب طيب أردوغان، إلى لبنان كما لو أن فخّاً قد نصب للزعيم التركي الكبير الذي نظر إليه العرب على أنه ldquo;البدل عن ضائعrdquo; في زمن الخيبات والهزائم .
اللبنانيون الذين يحبون كل الخارج إلا بلدهم، يحبون استدراج الآخرين إلى أفخاخهم وحساسياتهم وخلافاتهم وrdquo;مناقراتهمrdquo; .
وإذا كانت زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى جنوب لبنان ldquo;طبيعيةrdquo; في سياق النهج الإيراني المعادي لrdquo;إسرائيلrdquo; والغرب، وتأكيد حضور إيران على مقربة من الحدود الفلسطينية، فإن الشكل الذي تحوّلت فيه زيارة أردوغان حمل الكثير من المحاذير على الدور التركي، وعلى حضور الزعيم التركي في الشارع العربي .
ذلك أن تركيا منذ التحولات في سياستها الخارجية على يد حزب العدالة والتنمية، وهي تحاول أن توازن في علاقاتها مع كل جيرانها والقوى الدولية .
لقد كانت تركيا حتى العام 2002 جزءاً من المنظومة الغربية - ldquo;الإسرائيليةrdquo; . وعندما طرح وزير الخارجية الحالي أحمد داود أوغلو منذ العام 2002 سياسة تعدد البعد وتصفير المشكلات، انفتح عالياً وواسعاً على المحيط المشرقي، وأقام أفضل العلاقات مع الدول الإسلامية بكل تنوعاتها المذهبية . لكن أنقرة في الوقت نفسه لم تغادر موقعها الغربي ldquo;الإسرائيليrdquo; . وعلى الرغم من اعتراضها على السياسات ldquo;الإسرائيليةrdquo; ضد الفلسطينيين غير أن أنقرة حاولت جاهدة أن توفر فرصة للتسوية بين العرب من سوريا والفلسطينيين وبين ldquo;إسرائيلrdquo; . واحتفظت أنقرة بعلاقات واسعة وقوية مع الدولة الصهيونية على الرغم من السقف الأيديولوجي المرتفع الذي رفعته أحياناً ضد ldquo;إسرائيلrdquo; .
ولم تستطع أنقرة أيضاً أن تخرج من قميص حلف شمال الأطلسي الصاروخية فوافقت على نشر الدرع الصاروخية على أراضيها، رغم ما يمثله من تهديد لإيران، وما قد يولده من شكوك بين تركيا من جهة وإيران وسوريا والعراق من جهة أخرى .
لكن نجاح تركيا في علاقاتها مع العالم العربي والإسلامي ناتج أساساً من ابتعاد تركيا عن النزعات المذهبية والعرقية في سياستها الخارجية . فنجحت في اكتساب مودة وثقة الجميع من السعودية ومصر إلى إيران وسوريا بل حتى الأكراد في العراق .
وفي لبنان تحديداً كانت تركيا تنجح في البقاء على مسافة واحدة من كل الأطراف، ولا سيما بين فريقي 8 و14 مارس/آذار . بل اكتسبت تركيا دعم حزب الله اللبناني الذي نظم احتفالاً حاشداً لم يقم في أي بلد عربي تكريماً لشهداء أسطول الحرية الأتراك التسعة .
لقد اكتسب الأتراك قلوب كل اللبنانيين وكل العالم الإسلامي، لكن اللبنانيين يفسدون في كل مناسبة للود قضية . تعودوا على أن يكونوا أبداً في خدمة الخارج منذ أواخر عهد الدولة العثمانية عندما احتمى الموارنة بفرنسا، والدروز بانجلترا، والأرثوذكس بروسيا، والسنّة بالباب العالي، فيما لم يكن للشيعة نفوذ، وكانوا موضع غضب السلطنة من وقت إلى آخر .
واليوم تذهب كل فئة من اللبنانيين إلى مرجعية خارجية بل لم تتردد إحدى الفئات في السنوات الأولى للحرب الأهلية منذ العام 1975 في الذهاب إلى ldquo;إسرائيلrdquo; لتكون مرجعيتها، فأوصلت لهم في العام 1982 رئيساً للجمهورية على ظهر الدبابات ldquo;الإسرائيليةrdquo;، ولم يتردد أحد الزعماء الموارنة الحاليين في الافتخار بتلك العلاقة مع العدو ldquo;الإسرائيليrdquo; .
ميزة الدور التركي في المنطقة العربية، وفي لبنان أنه كان على مسافة من أطراف أي نزاع كان ينشب بينهم . لذا اكتسب ثقة هذه الأطراف .
اليوم عندما يطرح اللبنانيون زيارة أردوغان إلى لبنان كما لو أنها زيارة مضادة لزيارة أحمدي نجاد فإنما يسيئون إلى الدور التركي وإلى حظوظ استمراره وسيطاً نزيهاً بين اللبنانيين، وفي كل قضية لها بعد مذهبي .
قد لا يكون الأتراك انتبهوا ملياً إلى الذهنية اللبنانية في التعامل مع الخارج واستدراجه ليكون طرفاً . لكن المحصلة أن صورة تركيا في الواقع اللبناني قد اهتزت وبدا أردوغان كما لو أنه المضاد لأحمدي نجاد أو لو أن تركيا تأخذ جانباً من دون آخر . وهذا لا يؤذي فقط حيادية الدور التركي بل يعطّله ويدخله إلى متحف التاريخ .
إن من أهم عوامل قوة الدور والحضور التركي وسطيته . وما حصل في لبنان عندما زار أردوغان مناطق كثيرة ومن لون معيّن دون غيرها إنما كان يقع في المحظور . وكما يحتاج العرب والمسلمون إلى نصير مثل تركيا لكل قضاياهم، فإن تركيا تحتاج إلى تعاون كل العرب والمسلمين معها . وبقدر ما تنجح تركيا في أن تكون على مسافة واحدة من الجميع، يتقدم دورها وحضورها، والعكس هو الصحيح .
التعليقات