انتخابات مصر
شملان يوسف العيسى
الاتحاد الإماراتية
شهدت مصر خلال الأيام الأخيرة حالة من الاضطرابات والاعتقالات قبيل بدء الانتخابات التي تجري هناك اليوم الأحد. وقد رافقت التمهيد للانتخابات حملة اعتقالات لأعضاء جماعة quot;الإخوان المسلمونquot; في الأسكندرية، كما ضيّقت السلطات على البث التلفزيوني بإغلاق قنوات فضائية تحت شعار مكافحة التطرف، وقامت بتشديد قوانين إرسال الأخبار عبر الرسائل النصية، وأتاحت لوزارة الاتصالات التحكم في التصاريح الممنوحة، إلى جانب إلغاء بعض البرامج التلفزيونية، وتقييد رخص البث، والحد من تصاريح تصوير الشوارع التي تحتاجها وسائل الإعلام، وتضييق رجال الأمن على الصحفيين، والأهم خوف الجمهور المصري نفسه من التعبير صراحة عن رأيه... وهي كلها دلالات تبرر القلق لدى الصحافيين والهيئات الرقابية والمدنية من التلاعب بالانتخابات، كما ذكرت ديانا مقلد في جريدة quot;الشرق الأوسطquot; (الخميس 25 نوفمبر).
فلماذا كل تلك الإجراءات في هذه الانتخابات البرلمانية؟ المراقبون يرون أن السلطة لجأت إلى ذلك لأن المؤشرات تدل على أن نتائج الانتخابات قد تعطي quot;الإخوان المسلمونquot; حوالي 30 في المئة من أصوات الناخبين المصريين.
لكن هل تتغير الأمور في مصر نحو مزيد من الديمقراطية مهما كانت نتائج الانتخابات القادمة؟ الحقيقة التي يعترف بها الجميع هي أن مصر شهدت بدايات التغيير وشجعت الانفتاح السياسي، فبعد ثلاثة عقود من حكم الرئيس مبارك، وسواء خلفه نجله جمال أم لا، فإن النظام يواجه ضغوطات واحتياجات كثيرة قد تجبره على التكيف معها.
اتهامات مصر للولايات المتحدة بالتدخل في شؤونها الداخلية واعتبار دعوة واشنطن إلى إرسال مراقبين أجانب لمراقبة الانتخابات البرلمانية، اعتبارها أمراً مرفوضاً بشكل قاطع يطرح تساؤلات حول موقف الولايات المتحدة نفسها؛ فهل غيرت من سياستها المطالبة بالشفافية والإصلاح الديمقراطي؟ يبدو أن واشنطن تريد تقديم المزيد من المساعدات العملية واسعة النطاق لتشجيع الإصلاحات الديمقراطية، ليس في المجال الانتخابي فقط، ولكن أيضاً فيما يتعلق بتعزيز استقلال القضاء والشفافية الحكومية وتوسيع نطاق حرية الصحافة والمجتمع المدني.
ماذا سيكون رد فعل واشنطن وحلفائها الغربيين في حالة تحقيق quot;الإخوانquot; وبعض تيارات الإسلام السياسي الأخرى، نتائج في البرلمان تفوق نسبة 30 في المئة من إجمالي عدد مقاعده؟ الولايات المتحدة أعلنت أنها تلتزم بنتائج الاختيار الشعبي ما دام لدى هذه التيارات الاستعداد للالتزام بالعملية الديمقراطية.
لكن ماذا أيضاً عن تأثير الانتخابات المصرية على الوطن العربي بشكل عام والخليج بشكل خاص؟
مهما كانت نتائج الانتخابات فإنها ستعزز وترسخ النظام السياسي في مصر، ما دامت الانتخابات سليمة وبعيدة عما تعكسه مخاوف المعارضة من تزوير للنتائج، فاستقرار مصر ونظامها السياسي هو من أهم ركائز الأمن والاستقرار في المنطقة العربية، خصوصاً وأن المنطقة تشهد تحولات ومتغيرات سريعة قد لا تخلو من عنف واضطراب عقب الاستفتاء السوداني لتقرير المصير في يناير القادم، والذي سيقرر مصير وحدة السودان، وما إذا كان سينجو من الدخول في دوامة الحرب الأهلية مجدداً أم لا... فاستقرار مصر هو ضمان للاستقرار في السودان وباقي المنطقة العربية.
رسائل مصرية عشية اللعبة الانتخابية
ياسر عبد العزيز
الجريدة الكويتية
ثمة الكثير مما يمكن أن يقوله نقاد الحكومة المصرية عن تردي أدائها الداخلي وتفاقم مشكلاتها، أو عن تراجع دور البلاد الإقليمي وتضاؤل قواها الدافعة، سواء كانت صلبة أو ناعمة، لكن هؤلاء سيجدون صعوبة، بلا شك، إذا حاولوا الانتقاص من قدرة هذه الحكومة على إدارة العلاقات الخارجية وتجييرها لمصلحة البقاء والاستقرار والاستمرار.
تنطلق اليوم انتخابات برلمانية مصرية شديدة الأهمية في التاريخ السياسي المعاصر للبلاد؛ ليس فقط لأنها تجيء على رأس خمس سنوات شهدت زخماً سياسياً نادراً عززته حركات احتجاجية تكاثرت كالفطر، ولا لأنها ستعيد تشكيل برلمان خُمس أعضائه من جماعة 'الإخوان المسلمين'، ولكن أيضاً لأنها ستمهد للاستحقاق المفصلي الأهم، المتمثل في انتخابات الرئاسة المنتظرة، في سبتمبر من العام المقبل.
لم يكن هناك شك في أن الحكومة في موقف لا تحسد عليه؛ فالضغوط الاقتصادية، وغلاء الأسعار، وتفاقم التضخم والبطالة وتفشي الفساد، كلها عوامل تحد من قدرتها على إقناع الناخبين بالتصويت لأعضاء الحزب الحاكم، فضلاً عن الاحتقان السياسي والتوتر الطائفي وشوكة 'الإخوان' والضغوط الخارجية.
لم تكن الحكومة المصرية تتوقع ضغوطاً شبيهة بتلك التي استهدفتها عشية انتخابات 2005 البرلمانية والرئاسية؛ إذ كانت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش ووزيرة خارجيته كوندليزا رايس أكثر اقتناعاً بفكرة الضغط على دول الشرق الأوسط الرئيسة ودفعها بقوة نحو تحقيق إصلاحات ديمقراطية.
ومع ذلك، فقد صدرت تصريحات وأفعال مقلقة عن إدارة الرئيس أوباما؛ بعضها على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية، الذي طالب الحكومة المصرية بإجراء انتخابات نزيهة والسماح بتغطية إعلامية منفتحة والقبول برقابة منظمات دولية، كما جرت لقاءات وعقدت ندوات من قبل ما يسمى 'مجموعة عمل مصر'، وهي آلية سياسية استهدفت بلورة ضغوط مباشرة على القاهرة بهدف حملها على اتخاذ مواقف تؤمن فرصاً أفضل للمرشحين والأحزاب المنافسة للحزب الحاكم.
ورغم الانتعاش الواضح في العلاقات المصرية- الأميركية منذ تولي أوباما منصبه، وهو الانتعاش التي شهد ذروته عندما زار القاهرة، ووجه منها خطاباً إلى العالم الإسلامي بأسره، فقد ردت الدبلوماسية المصرية رداً خشناً على مطالبات واشنطن، واصفة إياها بـ'التطفل السياسي'، ورافضة رفضاً باتاً أي تدخل من الخارج في الشأن المصري، في ما تكفلت أقلام مقربة من الحكم بتوجيه إهانات لواشنطن في صورة مقالات اتخذت عناوين من نوع 'الشيطان يعظ'. لم تكد تمر أيام قليلة على هذه الرسائل الحادة من القاهرة، حتى قام الرئيس مبارك بجولة خليجية شملت الإمارات وقطر والبحرين، حيث حض خلالها الفلسطينيين على مواصلة التفاوض، لأن 'توقف المفاوضات سيزيد الاستيطان ولن تبقى أرض للفلسطينيين بعد ذلك لإنشاء دولتهم'.
جولة مبارك أيضاً مثلت تحولاً رئيساً في مسار علاقات بلاده بقطر، وهي العلاقات التي شهدت توترات واستهدافاً متبادلاً على مدى عقد ونصف العقد، ظهر في الدبلوماسية أحياناً، وفي قناة 'الجزيرة' غالباً، ويبدو أن البلدين اتفقا على 'صفحة جديدة' في تلك العلاقات خلال تلك الزيارة.
وقبل أن يغادر مبارك الدوحة متوجهاً إلى المنامة، كان وزير خارجيته أحمد أبو الغيط يدلي بحوار مهم لصحيفة قطرية، ومما جاء في هذا الحوار هجوم حاد على إيران لا يتناسب مع خطوات التقارب الأخيرة التي طرأت على العلاقات بين البلدين على صعد التعاون الاقتصادي والتجاري.
ومما قاله الوزير أبو الغيط في هذا الصدد: 'نقول لإخوتنا في إيران يجب أن يتوقفوا... أمن دول الخليج يأتي أولاً، ومصر تعطيه أكبر قدر من اهتمامها. يجب أن يُترك العراق في حاله، وأن يُترك لبنان لحاله، ويجب ألا تتعرض إيران للبحرين بأي شكل من الأشكال. لا يجب السماح بالتدخلات الإيرانية في الشأن الداخلي لدول الخليج. ونرفض استخدام طهران للبلاد العربية ككروت وأوراق لعب في تنافسها مع القوى الغربية'.
لم تكن تلك آخر رسائل القاهرة للعالم الخارجي عشية الانتخابات المهمة؛ فقبل 48 ساعة من توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع، اختار رئيس البرلمان المنتهية ولايته، والقيادي اللامع في الحزب الحاكم، ومرشحه في إحدى أهم دوائر العاصمة الدكتور فتحي سرور، اختار وكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب)، ليدلي لها بتصريح نادر.
قال سرور في تصريحه: 'الضغوط الأميركية من أجل الإصلاح قد تقود إلى دولة دينية... أي ضغط أميركي يمكن أن يؤدي إلى التحول من نظام يفصل بين الدين والدولة إلى دولة دينية'.
اتخذت الحكومة المصرية سلسلة من الإجراءات التي اعتبرت تحجيماً واضحاً للقوى السياسية المنافسة للحزب الحاكم، ويحفل الإعلام الإقليمي والعالمي كل يوم بأخبار عن قمع مؤيدي مرشحي 'الإخوان المسلمين' وحبس بعضهم، وعدم قبول ترشح بعض المعارضين، وعدم تنفيذ أحكام قضائية بوقف الانتخابات في عدد من الدوائر، وارتفاع حدة العنف المصاحب لأنشطة الدعاية الانتخابية. كما كانت الإجراءات الحكومية المنظمة للتغطية الإعلامية محل طعن وانتقاد كبيرين، بوصفها محاولة لـ'تطويع الإعلام'، في ظل تقلص الإشراف القضائي، ورفض الرقابة الدولية، والضغوط على مؤسسات المجتمع المدني المحلية الراغبة في مراقبة الانتخابات.
لكن القاهرة وجهت رسائل بالغة الأهمية إلى الخارج؛ أولها تؤكد أن ترتيب أوضاعها الداخلية 'خط أحمر لا تريد لأحد أن يقترب منه'، وثانيتها تشير إلى دورها في دفع عملية السلام، وضمان استمرار 'شغل مسرح المنطقة' بمفاوضات تسوية، يمكن أن تسكن الأوضاع، وتحد من 'الإرهاب'، وثالثتها توضح دورها في 'موازنة التهديد الإيراني، ودعم دول الخليج في مواجهة طموحات طهران التوسعية'.
على أن تلك الرسائل، رغم ما تنطوي عليه من أهمية بالغة، لم تكن مقنعة بما يكفي لكي تتراجع الولايات المتحدة، والغرب عموماً، عن فكرة الضغط على الحكومة المصرية من أجل السماح بإقامة انتخابات أكثر نزاهة، بشكل يؤدي إلى قدر أكبر من عدالة التمثيل السياسي المترتب عليها، ويقود لقدر أكبر من الحداثة في إدارة الحكم وتداوله. ولذلك، فإن الانتخابات لم تبدأ قبل توجيه الرسالة الرابعة، ومفادها أن: 'انفتاح الانتخابات وشفافيتها ونزاهتها سيزيد فرص (الإخوان) في الوصول إلى الحكم، وانتخابات 2005 خير دليل على ذلك'.
أمامنا وقت قليل جداً لنعرف إلى أي مدى كانت رسائل القاهرة إلى الخارج عشية الانتخابات نافذة ومؤثرة، وهي انتخابات يعرف أغلب المصريين نتائجها بدقة قبل شهور من بدء الاقتراع.
مصر: انتخابات دامية ورقابة غائبة وسيادة وطنية مفتقدة!
محمد عبد الحكم دياب
القدس العربي
ساعات محدودة تفصلنا عن بدء معركة الانتخابات التشريعية المصرية، ومن قلب الحدث يبدو العنف مظهرا غالبا على كل تفاصيلها. وقد لا يخلو ذلك من تعمد وقصد؛ هدفه بث الرعب والخوف في نفوس الناخبين من أجل ألا يقبلوا ويحجموا عن الذهاب إلى مقار التصويت للإدلاء بأصواتهم، وهذا إن حدث لن يكون استجابة لنداءات المقاطعة التى دعت إليها جماعات التغيير، إنما لتهيئة مناخ مطلوب للتزوير. وإيثار السلامة بجانب ما استقر من قناعة بانتفاء الجدوى من انتخابات محددة النتيجة مسبقا، وتزويرها الممنهج مؤكد بخبرات متراكمة على مدى عقود مضت؛ غيبت الثقة في أي وعود أطلقها حسني مبارك أو أي مسؤول كبر أو صغر بالنزاهة والحيدة.ؤومع ذلك فإن الحالة التي يعيشها الشارع المصري تجعله أقرب إلى المشاركة في الانتخابات من مقاطعتها، كنوع من تحدي العنف والترهيب والتخويف. وفي وقت جددت فيه الحركة المصرية للتغيير 'كفاية' نداء المقاطعة للمرة الأخيرة.
أحداث عنف دامية تعم مصر، ومثَّل صدام الأمن والشرطة مع مسيرات الإخوان المسلمين في مدينة الإسكندرية الجمعة قبل الماضية. مثَّل جبل الثلج العائم في بحر العنف المتلاطم، الذي يخفي أكثر مما يظهر، وأثار قلقا بالغا مما يمكن أن تسفر عنه نتائج هذه الانتخابات الموصوفة بالمروعة من قبل مواطنين عاديين. منظمات الحزب الحاكم، وأجهزة الحكم والأمن تندفع على طريق العنف والدم، بلا تحفظ وبخطى متسارعة حتى النهاية، وبدت فاقدة للعقل والرشد، وغير قادرة أو راغبة في التراجع، في معركة بدت بالنسبة لها معركة حياة أو موت. لكن رد الفعل المقابل من قِبَل الشارع بدا على نفس درجة ونوع الفعل؛ حيث الإصرار الواضح على تحدي سلطة الحزب والحكومة والأمن، ومقاومة بطشها وملاحقاتها. وبدت كلها مشاهد في ملحمة تغيير كبرى؛ أضحى التراجع فيها غير ممكن، وترفا لا يقبل به مواطنون يموتون في اليوم ألف مرة من قهر الحكم وصعوبة الحياة.
الصراع الانتخابي هو سدة العنف ولحمته في الوقت الراهن، وزاد عليه تجدد العنف الطائفي المندلع على نطاق واسع بحي العمرانية بالجيزة الأربعاء الماضي. ومن المتوقع أن يبقى العنف بعد أن تضع الحرب الانتخابية أوزارها. وهناك مؤشرات تقول بأن العنف سيستمر إلى ما بعد انتخابات الرئاسة العام القادم. ووصف مصدر مطلع ما يجري بتكسير عظام متبادل؛ بين أهل الحكم بما يملكون من ثروة ووسائل قمع وبطش من جهة، وشارع مستفز ومستنفر من جهة أخرى، ومعركة انتخابية كانت مصدرا للسخرية حولتها الظروف إلى مقاومة حقيقية لحرب أشتعلت ضد الشعب بلا تمييز.
في مشهد آخر كان وائل الإبراشي رئيس تحرير صحيفة 'صوت الأمة' الخاصة، ومقدم برنامج 'الحقيقة' على قناة 'دريم' قد وجه نداء؛ عَبْر صحيفته يدعو الإعلاميين ومقدمي البرامج الحوارية المرئية؛ إلى اعتبار يوم الأحد (غدا) إجازة يتوقف فيها هؤلاء عن العمل، كي لا يكونوا شهود زور في انتخابات، من المتوقع أن تشهد كل صور التزوير والعنف، ووجه الإبراشي نداءه احتجاجا على قيود وضعها وزير الإعلام؛ تمنع النقل والبث المباشر لما يجري على حقيقته، وفق المعايير المهنية السليمة، وأثارت دعوة الإبراشي جدلا واسعا في الأوساط الصحفية والإعلامية.
وتستحوذ انتخابات الغد على أكبر اهتمام محلي وإقليمي وغربي. وهذا الاهتمام الزائد يعود لعلاقتها، كما ذكرنا السبت الماضي، بالانتخابات الرئاسية القادمة، وتعويل أهل الحكم على المجلس التشريعي المنبثق عنها في حسم قضية الاختيار بين التمديد للأب أو التوريث للابن. وذلك الاختيار وإن بدا ثنائيا إلا أنه في حقيقته اختيار واحد يضمن بقاء الحكم واستمراره متوارثا في عائلة مبارك؛ وإذا كان ذلك صعبا في الظرف الراهن، فالتمديد يترك الباب مفتوحا أمام فرص أخرى قد تأتي مستقبلا؛ ينتقل فيها الحكم من الأب إلى الابن.
وهذا الاهتمام لم يمنع من نشوب معركة مفتعلة بين القاهرة وواشنطن؛ بسبب الرقابة الدولية على الانتخابات. ومنذ أن أفصحت وزارة الخارجية والرئاسة الأمريكيتان عن رغبتهما في الرقابة الدولية قامت قيامة المسؤولين الرسميين، فاطلقوا قذائفهم الإعلامية والصحفية رفضا لها، واعتبارها تدخلا في الشأن الداخلي المصري، وجاء هذا اعترافا واضحا لا لبس فيه بأن التزوير أصبح شأنا داخليا واجب الحماية. لذا انبرى الأمين العام للحزب الحاكم ورئيس مجلس الشورى صفوت الشريف في حديث له لوكالة أنباء الشرق الأوسط الجمعة قبل الماضية رافضا الرقابة الدولية، وبعدها جاءت تصريحات وزير الشئون القانونية مفيد شهاب إلى قناة الجزيرة مؤكدة على الرفض، وهذان المسؤولان يعتبران الرقابة؛ إن لم تكن رجسا شيطانيا فهي تطفل سياسي أو مساس بالسيادة الوطنية.
وفي هذا خلط متعمد بين رقابة دولية أضحت عرفا تقبل به الدول في انتخاباتها التشريعية والرئاسية وبين تدخل في الشؤون الداخلية. والرقابة شيء والتدخل شيء آخر. وليس هناك من يقبل بالتدخل الأمريكي أو غيره في الشأن الداخلي لمصر أو غير مصر. ورفضه موقف صحيح، ينحاز إليه الوطني المستنير والغيور. إلا أنه موقف لا يُفهم ولا يُستوعب من أهل الحكم وأركانه، فهم يستجيبون دوما للضغوط والتدخلات الأمريكية والصهيونية تحديدا، وقد أفقرت مصر وأفقدتها مناعتها وأضاعت استقلالها وأضعفت دورها. ونتج عن ذلك فقدان الناس لثقتهم في ادعاءات وأكاذيب المسؤولين الحزبيين والرسميين عن السيادة الوطنية والأمن القومي.
أهل الحكم وموالوهم يجدون راحتهم ومصلحتهم في أحضان الاحتكارات وأجهزة السياسة والأمن الأمريكية والصهيونية؛ يدينون لها بالبقاء والاستمرار. والمجال لا يتسع لحصر التدخلات الأجنبية والصهيونية في الشؤون الداخلية المصرية، ولا بيان الانتهاكات الماسة بالسيادة الوطنية، ولا رصد الممارسات التي تؤكد التبعية، ولا صور التغطية التي تتم لكل ذلك بالافتعال والتدليس. تدخلات سافرة وقبول ذليل بما لا يمكن القبول به في أي بلد مستقل ومتحرر الإرادة غير تابع. ونختار الجدار الفولاذي الفاصل بين مصر وفلسطين، على الحدود مع غزة. نختاره كنموذج لأكثر أنواع التدخل الأجنبي سفورا. وإن كان قد أحيط مؤخرا بالتعتيم ولفه الغموض فهذا لا يغير الموقف منه. فكرة الجدار أمريكية، ومن تولى تصميمه وتصنيعه سلاح الهندسة العسكرية الأمريكية، ومن قام بنقله وأشرف على تنفيذه فنيون وعسكريون أمريكيون على أرض مصرية في تكتم شديد، ولما كشفت أجهزة الصحافة والإعلام أمره بعد إنكار؛ تغنى به مداحو الحكم ودعا له وعاظ السلطان؛ وصفوه بما ليس فيه، بدعوى حماية الحدود من الخطر الفلسطيني وليس الصهيوني. وأشهَرَ المداحون والوعاظ سيوفهم الخشبية ضد تدخل مزعوم في شكل رقابة دولية على الانتخابات.
ولا بد أن يدلي القانون بدلوه في هذا الادعاء، ولن نجد أفضل من الفقيه وأستاذ القانون الدستوري والوزير الأسبق يحيى الجمل وهو يشير في مقال له نشرته صحيفة 'المصري اليوم'، يوم الاثنين الماضييشير إلى عدم صحة الادعاء بمساس الرقابة الدولية على الانتخابات بالسيادة الوطنية، وأوضح أن المساس بالسيادة يكون بقرار من سلطة تتعارض مع السلطة المصرية، وترغمها على اتخاذ موقف معين في أمر معين، لأن منظمات المجتمع المدني، المنوط بها القيام بمهمة الرقابة لا تملك سلطة، ولا تقدر على فرض شيء على بلد تُبَاشَر فيه مثل هذه الرقابة، وقد أصبحت عرفا دوليا في كثير من بلدان العالم. ونوه في مقاله إلى مشاركة وفود مصرية في الرقابة على الانتخابات في بلاد عدة، ولم توصف تلك المشاركة المصرية أو غيرها بأنها مست سيادة تلك الدول من قريب أو من بعيد. فمنظمات المجتمع المدني..حسب رأيه..تراقب وترصد كيفية سير العملية الانتخابية، وكيفية فرز الأصوات وإعلان النتائج، ثم تذيع حصيلة ما رأته وما رصدته بغير تدخل في أي من إجراءات العملية الانتخابية، والمنظمات المدنية والأهلية تملك حرية تساعدها في إعلان الحقائق كما رأتها. ورفض رقابة من هذا النوع معناه الرغبة في إخفاء حقائق بعينها عن الرأي العام، وهذا لا يجوز!
ونعتقد أن رأي هذا الفقيه القانوني المعروف لم يسقط من حسابه المنظمات المشبوهة؛ الممولة من هيئات ومؤسسات أمريكية وغربية غير بريئة؛ لها انحيازاتها المعادية لحقوق الإنسان وضد الحريات والديمقراطية. تلك المنظمات المشبوهة ليست ما يقصده، لوجود منظمات 'صديقة للبيئة'، إذا جاز التعبير، أي صديقة لقضايا حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية، منها ما هو مناهض للاستبداد والاحتلال والاستيطان والعنصرية، ومنها ما هو محايد منصف في سعيه لكشف الحقائق أمام الرأي العام، ومِثْلها لا يمثل خطرا على السيادة الوطنية؛ ما هو الخطر الذي يمكن أن تجلبه رقابة منظمة الوحدة الافريقية، ومنظمات دولها الكبيرة غير الحكومية، مثل جنوب افريقيا؟ وكذا هناك منظمات في الاتحاد الأوروبي، وفي دوله المحايدة والديمقراطية؛ مثل سويسرا والنمسا والسويد والدنمارك والنرويج، وحتى بعض منها في عدد من الدول العربية؛ كمصر ولبنان والجزائر والمغرب وموريتانيا وقطر، والآسيوية كاليابان، والإسلامية في ماليزيا ودول في آسيا الوسطى وتركيا، وغيرها كثير.
والفروق واضحة بين تدخل دول وسلطات رسمية، وبين رقابة منظمات حقوقية محلية وإقليمية وأممية، فتدخل الدول يقوم على الإرغام، ويتم بالضغط بأنواعه؛ السياسي والاقتصادي والعسكري. ورقابة المنظمات الأهلية ذات طبيعة أهلية؛ ليس فيها إرغام أو ضغط. ونسأل: أيهما أخطر على الاستقلال والسيادة الوطنية؛ التزوير ومصادرة إرادة الناس ووطأة البطش والعنف البوليسي والبلطجة، أم الرقابة من منظمات وجماعات 'صديقة للبيئة'؟ قد يعتبر البعض أن هذا كلام متأخر بعض الشيء، فلم يبق من الزمن سوى سويعات على حدث يشد أنظار العالم من كل اتجاه. لكنه كان لازما لكشف التدليس والانتقائية في سياسة حزبية ورسمية في بلد يخوض معركة تسيل فيها الدماء بلا حساب!